لا يمكن تشييد البناء القوي السليم إلا على أرضية صلبة وأركان متماسكة متينة، حتى يبقى ذلك البناء ويصمد أمام العواصف والزلازل وتغيرات الزمن. والأمر سيان في التوجهات والتيارات الفكرية، إذ لا مناص لها من أن ترتكز على ركائز نظرية وعملية صلبة حتى تنمو وتستمر وتنفذ إلى أعماق المجتمعات، وبلا ذلك فإنها تكون معرضة دوما للانقراض والاضمحلال. والشواهد على ذلك كثيرة ولا تخفى على ذي بصيرة، خاصة في أجوائنا الإسلامية الإمامية، فكم من اتجاه تشكّل وظهر على سطح العمل، وشق طريقه وخطا خطواته، ثم وإذا به يخبو ويصيبه الضمور شيئا فشيئا حتى يتلاشى ويصبح هو وأهله في طي النسيان.
وأسباب تلاشي مثل تلكم التيارات تظهر جلية للفاحصين والمعتبرين وأهل الاختصاص، فالخلل - عادة - ما يكون في إحدى دوائر ثلاث، أو فيها مجتمعة. فإما أن يكون في دائرة المعتقَد والمبدأ والأيديولوجية التيارية، أو في دائرة شخصيات العاملين وطباعهم ونفسياتهم، أو في دائرة مقصد العمل وجهته وآلياته.
كثير من التيارات والاتجاهات التي انحسرت وذهبت أيامها، كان مؤسسوها يهدفون منها إلى تكوين حظوة لهم، حبا في الظهور ورغبة في القيادة لا أكثر. وترى بعض تلك الاتجاهات قد انطلق برؤى دينية بحتة، ولم تمر إلا فترة بسيطة حتى تحول إلى حزب سياسي ليس همّه إلا الوصول إلى كراسي رسمية باسم الإسلام والتشيع! وتجد غاية ما يفكر أعضاؤه فيه هو تحقيق النصر في الانتخابات وما أشبه، فإذا أقاموا نشاطا إسلاميا أو حتى لو نظموا مجلسا حسينيا، فإن هدفهم المبطّن من وراء ذلك يكمن في جذب الأفراد وأصواتهم ومن ثمّ استغلالهم في تحقيق مقاصد البروز السياسي. ومثل تلك الاتجاهات والتيارات يكون الخلل فيها في دائرة المعتقد والمبدأ، فالإخلاص لله - جل وعلا - مفقود هنالك. ورغم أنها قد انطلقت من منطلقات دينية ظاهرة ومعلنة، إلا أنه سرعان ما تبيّن أن تلك المنطلقات ليست سوى ستار يخفي أهدافا سياسية ومصلحية خاصة. ولعلك تجد أيضا أن بعض التيارات رغم أنها تشكلت على أسس إمامية صحيحة، وكان لمؤسسيها أو أعضائها حظ من إخلاص النية لله تعالى ولأهل بيت الطهارة عليهم السلام، إلا أنهم - إذ لمسوا بريق القيادة والمنصب - مالوا عن صراطهم إلى هوى الظهور وحب الاستفراد، فانتفى التأييد الإلهي وغابت عناية المعصومين لهم، فوجدوا أنفسهم فجأة في التيه وانفض الناس من حولهم حتى استيقظوا من أحلامهم وقد ماتت مؤسساتهم وتلاشت اتجاهاتهم.
وبعض التيارات التي ظهرت في صفوف الشيعة كانت تعاني - رغم إخلاص أفرادها وسلامة نواياهم - من نفسيات انهزامية تراجعية وطبائع تميل إلى الضعف وطأطأة الرأس والانسحاب من المواجهة التي لابد منها، ولذا فإنها بقت تراوح في مكانها لأن روح الشجاعة والإقدام عند أعضائها مفقودة. وبعد برهة من الزمن أعيى التعب هؤلاء، إذ لا نتيجة لما يجهدون أنفسهم من أجله، فتكونت حالة التململ بعد الإرهاق، وانحلّ عقد تلك التيارات من تلقاء نفسها.
ولعلنا نجد بعض التيارات - رغم سلامة مبادئها وكفاءة أعضائها - تفشل في الاستمرار أيضا؛ وذلك يعود إلى اعتلال في آليات العمل ومقاصده وجهاته. فكثير من تلك الاتجاهات تتحرك في محيط لا ينبغي الانشغال به أولويا، وهو محيط الجيل القديم الذي تربّى على مفاهيم معينة يصعب تغييرها وتصحيحها، فوجب عندئذ التحرك في محيط الجيل الجديد، الذي لم تصبه بعدُ الأمراض الاجتماعية وظل في معزل عن التأثيرات الانحرافية. هذا الجيل يمثل نواة المستقبل، وجذوره التي إن صلحت صلح، وإن فسدت فسد. ولما لم تنتبه تلك الاتجاهات والتيارات العاملة إلى هذه الحقيقة؛ فإنها سقطت في ميدانها وتلاحقت كبواتها عندما أرهقت نفسها من أجل جيل مضى لشأنه، دون تحقيق أي إنجاز يذكر.
فهذه الاختلالات الثلاث التي أسلفنا في ذكرها، ربما تكون إحدى أهم الأسباب التي أدت إلى ضمور الاتجاهات والخطوط الفكرية الإسلامية، على اختلاف مساراتها. ولا شك أن في ذلك عبرة لمن يعتبر. ومن يتصدى إلى تشكيل اتجاه ديني؛ يتوجب عليه بداية أن ينظر إلى تجارب من سلفه ويضعها نصب عينيه لئلا يقع في الزلل فيتكرر الفشل.
وعطفا على ذلك؛ فإن توجه "خدام المهدي" صلوات الله عليه، الذي بدأت ملامحه بالبروز وسماته بالتشكل في الآونة الأخيرة؛ يحتم عليه أن يعَنْوِنَ مبادئه من خلال إيمان عميق ونظرة ثاقبة، لأنه توجه لا يقبل لنفسه يوما ما أن ينحرف عن مقاصده الشريفة وأهدافه العظيمة، أو أن يصيبه سقم الجمود والتراجع فيندثر، أو أن تظل طموحاته حبيسة الأدراج المكتبية. ولذا فإن الدوائر الثلاث (المعتقد والمبدأ - نفسيات وطبائع العاملين - آليات العمل ومقاصده) يتوجب أن تكون نظيفة وسليمة من أية شائبة أو علة.
إن تيار "خدام المهدي" صلوات الله عليه؛ هو تيار انطلق من الهيئة الإيمانية التي ذاب أعضاؤها ومؤسسوها حبا في إمام زمانهم عجل الله فرجه الشريف، فنذروا أنفسهم لخدمته مدى الحياة، سعيا منهم للاقتراب منه ونيل رضاه، إذ قال - عليه الصلاة والسلام - في التوقيع الصادر عنه: "وليعمل كل امرئ منكم بما يقربه من محبتنا".
ومثل هذا التيار لا يمكنه أن يكون إلا في القمة، بتوفيق من الله جل وعلا، وعناية من لدن الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وهو يعَنْوِنُ مبادئه ومنطلقاته بثلاثة شعارات كان نائب ولي العصر آية الله العظمى السيد الصادق الشيرازي قد لقّنها الناشطين الإسلاميين، وهي: "الله.. الشجاعة.. الجذور".
الله.. حيث هو المعتقد والمبدأ الذي يجب إخلاص النية إليه، فلا يكون لمؤسسي أو أعضاء هذا التوجه المهدوي أية تطلعات شخصية أو أهداف مصلحية، ولا يتسلل إلى قلوبهم الغرور أو آفة حب الظهور، ولا ينبغي أن يكون مغزاهم من أعمالهم ونشاطاتهم إلا الفوز برضاه سبحانه وتعالى بخدمة أهل بيت النبوة - صلوات الله عليهم - وهداية البشرية إلى نورهم. وعلى هذا يكون العمل خالصا لله تعالى.. لله فقط.
الشجاعة.. حيث إنها النفسية التي يجب أن تسود، والطبيعة التي يجب أن تقود العاملين إلى تحقيق النصر في معترك الحياة، فلا يفر الأعضاء حين النزال مع التيارات المنحرفة، ولا ينسحبون عندما تواجههم الأزمات والمشاكل أو عندما تُشَن عليهم الحروب مهما بلغت ضراوتها، ولا يخشون في الحق لومة لائم، ولا يتأثرون بالأمراض الانهزامية والانكفائية. ويكون الإقدام سلاحهم على الدوام.
الجذور.. حيث يجب أن يركز هذا التوجه على الجيل الجديد، تربية وتعليما وتغذية دينية وفكرية، حتى يعد جيلا مهدويا قادرا على حمل راية قائم آل محمد صلوات الله عليه، تلك الراية التي يتطلع المؤمنون المخلصون ويتضرعون إلى الباري لأن تخفق قريبا عاجلا على ربوع الأرض.
فهذه العناوين الثلاثة تعد ركائز مبدئية للتوجه الفكري لـ "خدام المهدي" عليه الصلاة والسلام الذي يدعو مؤسسوه الله عز وجل أن يكون مرضيا عنده وعند المعصومين الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وها قد حان وقت العمل..