يا أبتاه المظلوم.. هل توقفت دموعك الآن؟! 

شارك المقال على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp
يا أبتاه المظلوم.. هل توقفت دموعك الآن؟! 

كما كان القلم سلاحه؛ والتعبّد عرينه؛ والزهد غناه؛ والتواضع سجيته.. فقد كان البكاء قرينه والدمع رفيقه!

وكيف كانت أحواله؛ فإن الحزن ظل ملازما له طوال حياته، وظلت دموعه تنهمر من مآقيه في ليله ونهاره، ولم تنقطع قط يوما إلا نادرا.

وكان يجد في البكاء متنفسا لشجونه وأحزانه التي اعتاد أن يخفيها عن أنظار من حوله، حتى المقربون منهم من أهله وذويه. وهكذا ظل قلبه المثقل بالهموم والأحزان ينتظر فرصة الخلوة والانقطاع كل ليلة ليبث ما فيه من الوجد، فتترقرق تانك العينان وتجري منهما الدموع المتلألئة على ذانك الخدّين لترتسم على ذلك الوجه الطاهر إمارات الأسى واللوعة ولينتكس ذلك الرأس المقدس إلى الأرض وقد أخذت العبرات صاحبه!

وربَّ بعضا لا يكاد يصدّق أن تكون ذا حالة من كان أمامهم حين النوازل في رباطة جأش غدت مضرب الأمثال، ومن كان لا يتزعزع قيد أنملة ولا يتأثر مثقال ذرة مهما كانت الشدائد والرزايا التي وقعت عليه. ولكن هؤلاء ما عرفوا أن محمدا الشيرازي بمقدار ما كان ليثا هصورا في محاربة الباطل الذي لم يرضخ له مرة واحدة في حياته؛ فإنه كان أيضا صاحب ذلك القلب الحنون الرؤوف والنفس العطوفة الكسيرة، وأن هذا السيد المظلوم كان أمامهم في حال، وأمام ربّه وأئمته في حال أخرى!

كان يتماسك مقابلهم، ثم يختلي بنفسه ليهدر ما في صدره وليشكو إلى الله ما يعاني منه. ولئن حاول إخفاء ذلك؛ فإنه لم يستطع أن يخفيه دائما وأبدا، فشوهد مرات ومرات على تلك الحال التي كانت سرا من أسراره. ولما كان ينتبه إلى أن هنالك من رآه؛ كان يكفكف دموعه متعجلا لئلا يهتز رائيه. فهو للملايين من أمثال هذا الرائي رمز التحمّل والصبر والجلادة والمنعة.

في سَحَر كل ليلة؛ كان بعض أبنائه وذويه يستيقظون ليسمعون صوت أنينه الخافت، المنبعث من حجرته الصغيرة، حيث كان يجلس في مصلاّه مبتهلا يناجي ربّه: "يا من لا يخفى عليه أنباء المتظلمين، ويا من لا يحتاج في قصصهم إلى شهادات الشاهدين، ويا من قربت نصرته من المظلومين، ويا من بعد عونه عن الظالمين، قد علمت يا إلهي ما نالني من فلان بن فلان مما حظرت وانتهكه مني مما حجزت عليه، بطرا في نعمتك عنده، واغترارا بنكيرك عليه. اللهم فصلِّ على محمد وآله، وخذ ظالمي وعدوي عن ظلمي بقوتك، وافلل حده بقدرتك (...) اللهم إني أسألك بنورك وعزك وجلالك وجميع معاليك، أنة تأخذ من يؤذيني أخذ الزلزلة، أخذ الرابية، أخذ الدمدمة، أخذا وبيلا، أبِده، ابطُش به البطشة الكبرى، وانتقم منه، واجعل كيده في تضليل، وأرسل عليه طيرا أبابيل، وألْقِه في الحطمة الكبرى، خذه أخذ عزيز مقتدر".

وفي الحقيقة، فإن هذا الدعاء العظيم، وهو دعاء مولانا الإمام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه) في رد كيد الأعداء والظالمين، والمروي في الصحيفة السجادية الشريفة، كان هو السيف البتار الذي قصم ظهور أولئك الذين أرادوا بهذا السيد المظلوم سوءا، والذين ظنوا أنه يمكن أن يُقضى عليه بسهولة ويسر! وما علموا أن لهذا العالم المتفاني في سبيل الله من يحميه ويرعاه ويحفظ مسيرته الجهادية.

إنها قوة الدعاء والبكاء، فحيث كان الإمام الراحل يبكي ويدعو؛ كانت النقمة تحل على معادي الدين. وكلما اغرورقت عيناه بالدموع؛ كان الهمّاط الظالم في مصيبة تشغله بنفسه! وبهذا السلاح حفظ الله (جل ذكره) هذه المرجعية المحسودة المحاربة من حكومات ومنظمات وأحزاب وبؤر الفساد وأذرع الاستعمار.

ودموع الإمام المظلوم الراحل لم تتوقف منذ ذلك اليوم الكئيب الذي ترك فيه مرغما كربلاء المقدسة، مدينة جده أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه. ففي وسط ليل حالك ودّع السيد الحسيني جدّه، وألقى آخر نظراته على القبة الشريفة بعين باكية وقلب يعتصره الألم من شدة الفراق.

هاهو السيد الشيرازي، إمام الحرم الحسيني، وزعيم الحوزة، ومرجع كربلاء، يترك موطنه وشعبه الذي كان له كالأب الحنون وكانوا له كالأبناء البررة. إنه يتركهم في جنح الليل المظلم متخفيا وسط مجموعة محدودة من خُلَّص المؤمنين الذين عبروا به إلى خارج حدود العراق لحمايته من بطش النظام العفلقي الجائر الذي كان قاصدا قتله واغتياله. وعندما أفاق أهالي كربلاء في الصباح، ذُهِلوا لفقدانهم "آغا محمد" الذي كانوا يتبركون به ويعقدون النذور على باب داره ويرجعون إليه في كل مشكلة ومعضلة، وبكت عيون الأهالي دون أن تدري أن عيني سيدهم الذي رحل عنهم بالأمس كانت تشاطرهم البكاء طوال الطريق الذي سلكه المؤمنون بالإمام لإخراجه من جحيم العراق!

وكان للسيد المظلوم موعد آخر مع البكاء عند مرقد العقيلة الكبرى زينب (صلوات الله وسلامه عليها) حيث وصل إلى هناك زائرا مشتكيا مما أفسده البعثيون في مدينته المدمرة، حيث قد عبثوا بالحرم الشريف، وهدموا الحوزة والمدارس، وصادروا المساجد والحسينيات، وسجنوا العلماء والمجاهدين، واعتقلوا المؤمنين ونكّلوا بهم. وكان ذلك مؤلما إلى أقصى حد بالنسبة إلى ذلك السيد المظلوم الذي لم يكد يخرج من أزمة حتى يقع في أخرى!

وتتوالى مواقف البكاء والأحزان، عندما شاهد الإمام الراحل أخاه الذي كان على موعد مع الشهادة في سبيل الله، إنه آية الله المفكر العملاق السيد حسن الشيرازي قدس الله روحه، الذي لقيه الإمام في بيروت إثر توقفه فيها واستعداده للتوجه منها إلى البلد الذي تلقّى من أهلها استغاثة طالبته بالهجرة إليه.

عندما شاهد الإمام شقيقه الذي كان قد لجأ إلى لبنان قبله، بعد خروجه من سجون بغداد، لم يتمالك الشقيقان نفسيهما وجرت دموعهما على لحيتيهما، ذلك بعد أن قبّل السيد حسن يد أخيه الأكبر، وشكر الله على أن تمكن من رؤيته مجددا، فكأنما كان الشيرازي العظيم قد وُلِد من جديد بخروجه من هذا السجن الكبير المسمى "العراق"!

وحينما حطّت رحاله في الكويت، ولبّى دعوة المرحوم الحاج عباس ميرزا حسين وأمّ المصلين في المسجد الذي حمل اسمه في ما بعد في منطقة "بنيد القار"؛ اكتشف الكويتيون عالَما جديدا اسمه "عالم الإمام الشيرازي" وكانوا للمرة الأولى يتذوقون حلاوة الإيمان الحق من نمير علوم أعظم مرجعية عرفها التاريخ الشيعي على الإطلاق. وكانت تلك الصلاة الروحانية، وتلك المحاضرات الفذة، وتلك الأخلاق النبوية الرفيعة، محل انبهار أهالي ذلك البلد المحروم طوال عقود من عالِم رباني يحييه، ويعيد إلى شيعته أصالتهم العقائدية والولائية، ويعرفهم بأحكام دينهم وتكاليفهم الشرعية التي جهلوها. ولكن أكثر ما أبهر أولئك الأهالي وقتها، أنهم في ظهيرة أحد الأيام الذي قد صادف ذكرى عاشوراء، وجدوا ذلك السيد المقدّس الجليل يغيّر من خطابه المعتاد على منبره في المسجد. وإذا بالإمام الشيرازي ينوح لمصيبة جده الحسين عليه الصلاة والسلام بصوت متقطع حزين! وإذا به يقرأ العزاء لجموع المصلين وتخنقه العبرة مرارا فلا يستطيع أن يكمل! وإذا بالمسجد يرتج بالبكاء والنحيب إذ كان الإمام يبكي بحرقة وألم لا نظير لهما حتى ابتلت لحيته الكريمة بالدموع!!

وهكذا كان الشيرازي العظيم سريع الدمعة لا يستطيع حبسها كلما ذُكِرت عنده مصيبة من مصائب أهل البيت المظلومين عليهم صلوات المصلين. وأكثر ما كان يبكيه سماعه لمصيبة أمه الزهراء أو جدّه الحسين عليهما الصلاة والسلام، إذ كان شديد التعلق بهما وجدانيا وروحيا. وكان مع ذا؛ ورغم أنه ليس بخطيب حسيني، يجتهد في قراءة مقتل الحسين (صلوات الله عليه) بأسلوب مؤثر ومن مصدر تاريخي لم يلتفت إليه الخطباء حتى يومه ذاك. وما إن نزل الإمام من منبره حتى تهافت عليه الخطباء يسألونه عن ذلك المصدر، ولما أرشدهم إليه تعجبوا من سعة اطلاع هذا المرجع النادر!

ولم تمضِ إلا فترة وجيزة، وإذا بالحملة المسعورة تبدأ ضد السيد المظلوم في ذلك البلد الذي كان على مقربة من أن يتحول إلى قوة شيعية حضارية هائلة لولا تلك الحملة الظالمة! لقد كان صعبا على مصاصي دماء الشيعة وأموالهم و"أخماسهم" أن يتركوا "كويت المناخ" تذهب في جعبة المرجع الشيرازي! وظنوا أن هذا المرجع مثلهم - حاشاه - يستنفر طاقته لأجل تكوين ثروة من هذه الأخماس والصدقات والتبرعات!

وكان آية الله الشيخ الوحيد الخراساني يتوجس خيفة من أن ينقض الخصوم وحواشيهم على السيد المظلوم، خاصة بعد تنامي شعبيته في ذلك البلد وتعاظم دوره ورجوع المعظم له في التقليد وقيام تلك المؤسسات ببركة جهوده. ولما أن وُضِع حجر الأساس لحوزة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) توجه الشيخ الوحيد إلى السيد الشيرازي وطلب منه عدم إكمال المشروع، وأبلغه إشفاقه عليه من الخصوم الذين أرعبهم قيام هذا المشروع الذي سيؤدي إلى سحب البساط من تحت أرجلهم، وبالذات في مسألة التبرعات والأخماس التي ستذهب تلقائيا إلى هذه الحوزة بدلا من تلك التي في النجف! وكان فحوى نصيحة الوحيد أنه حاول مرارا بناء مدرسة فقوبل بالتحذير والوعيد والتهديد، مع أنه ليس السيد الشيرازي "المحسود منذ انطلاقة مرجعيته في كربلاء"، فكيف إذا كان هو المتصدي لمثل هذا المشروع وفي هذا الوقت الحساس حيث تكاثرت الإحن والحزازات؟! وكانت الابتسامة من السيد المظلوم هي الجواب على النصيحة. وعرف الوحيد أن الشيرازي ماضٍ في مشروعه، وأنه صنديد في هذه المواقف لا يعبأ بأحد، ولا يهتم إلا بأداء وظيفته الشرعية وإن لم تكن تعجب "طحالب" التشيع!

ووقع ما توقعه الشيخ الوحيد، وما توقعه المرحوم السيد علي شبر، وغيرهما من أهل الدراية بما يجري وراء الكواليس ضد هذا السيد الطاهر الجليل. فوقعت الفتنة الكبرى التي أرجعت الشيعة قرونا إلى الوراء، وجعلتهم في أسوأ حال حتى يومنا هذا!

في تلك الفترة العصيبة تجددت الآلام في قلب السيد الحنون. لم يكن يتوقع أن تأتيه الطعنة من "الداخل" وهو الذي يحارب "الخارج" دوما، فكان يتوقع أن تأتي الطعنات تلو الطعنات من هذا "الخارج" ولكن "الداخل" دخل على الخط، وكانت طعنته أشد إيلاما، فإن القرح الداخلي أشد على بدن الإنسان من الجرح الخارجي. وأي طعنة أشد من التشكيك بفقاهة واجتهاد مَن هو مقياس لهما من أجل حفنة من المال؟! وأي جرح أعمق من الافتراء والاغتياب لرجلٍ إليه تنتسب كل فضيلة ومنه ينبع كل علم؟!

وكان السيد المظلوم - كعادته - جلدا صبورا في تلك الأزمة، ولم يقبل على نفسه بأن ينزل إلى هذا المستوى الرخيص فيرد على فتوى بعشرٍ من أمثالها، ولو أنه نزل إلى هذا المستوى لكان أكثر تأثيرا على الناس وإيلاما لخصومه دون شك، فلا أحد أيا كان حجمه يتأتى له أن يصمد أمام الشيرازي الذي إن أراد أن يحطّم فإنه يعرف كيف! ولكن هذا العالم التقي، كان يأبى على نفسه أن يتهاوى إلى هذا الدون، أو أن يوظف الفتوى التي هو محاسب أمامها عند الله وعند مولاه صاحب العصر (أرواحنا فداه) في معركة مع الطائشين الذين لم يتورعوا عن استخدامها!

وكم كان الشيرازي المظلوم حكيما إذ لم يقبل حتى بأن تُنشَر الفتوى المعروفة للمرحوم آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) والتي تمثل رعبا بالنسبة إلى من نعرف! فإنها تسحب شرف "السيادة" والانتساب إلى ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن نعرف! غير أن السيد المظلوم ما كان يريد أن يرد على الحماقة بمثلها، وطفق يستمر في جهاده دون التفات إليها!

ولكن الذين زادهم الله مرضا لم يُردوا لهذه الفتنة أن تخمد، فأججوها إلى أن شقت صفوف الأمة، وشرخت وحدتها، ودمّرت حتى أسرها!! عندما وقع الطلاق بين أزواجٍ بعضهم يقلّد هذا المرجع المظلوم والآخر لا يقلّده!!

هنا كان تأثر الإمام المظلوم الراحل (رضوان الله تعالى عليه) بالغا، ولم يكن يستطيع التحمّل. فلجأ إلى سلاحه البكاء، في مناجاته مع ربه، وشكا همه وحزنه إلى الله تعالى، وإلى مقام بقيته في أرضه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فلم تمضِ إلا فترة وإذا بالنائب يلتقي بالمنوب عنه، بُعيْد صلاة الفجر التي أداها جماعة في المسجد. وإذا بإمام الكون المهدي (أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء) يلتقي بنائبه المخلص الصابر الشيرازي ويقول له: "يا محمد.. سينتهي هذا الظلم الواقع عليك، وستبقى أنت مؤيدا منا"!!

وتكون اللحظات القصيرة تلك لحظات الدموع والبكاء من السيد المظلوم البكّاء!

وكان حقا على الله أن يفي بوعده، فانتهى ذلك الظلم وذهبت الحملة المسعورة أدراج الرياح، وتاب من تاب من أهل الفتنة، وهلك من هلك من أهل النفاق، وسكت من سكت من أهل الشقاق، وبقي الشيرازي العظيم شمسا مضيئة في سماء الأمة، لا يحجبها حاجب ولا يحول دونها حائل، ولم تمضِ سوى سنوات معدودة، حتى غدت هذه المرجعية المحاربة بالأمس.. المرجعية العليا بلا منازع! فـ "إن الله لا يضيع أجر المحسنين".

بيد أن الدموع لم تتوقف رغم توقف تلك الحملة الظالمة، ذلك لأن المآسي والمصائب لابد أن تلازم إمام المظلومين (أعلا الله درجاته) على طول الخط، فالمؤمن مبتلى كما أنبأت به الروايات المستفيضة.

عندما هاجر هجرته الثانية إلى قم المقدسة، ورحّب به أهلها، وزاره المراجع من كل حدب وصوب، كان الشيرازي العظيم على موعد مع فاجعة أجهشته بالبكاء. إنه شقيقه وذراعه اليمنى، آية الله السيد حسن الشيرازي، يتلقى رصاصات الغدر من عملاء نظام بغداد في بيروت، فيلقى حتفه مضرجا بدمه، وترتفع روحه إلى السماء تاركا شقيقه الأكبر مفجوعا برحيله ومقتله بهذا الشكل المرعب.

وفي الواقع فإن النظام الجائر في العراق لم يستهدف إلا الشيرازي الأكبر من خلال اغتيال أخيه، فإنه حين لم يستطع أن يصيبه بسوء توجه إلى الشقيق المخلص الذي كان واحدا من أربعة "مهديين" على حد تعبير المرحوم آية الله السيد محسن الحكيم (رضوان الله عليه) هم أنجال المرجع الورع الزاهد المقدس الميرزا مهدي الشيرازي قدس الله روحه الشريفة؛ السيد محمد والسيد حسن والسيد صادق والسيد مجتبى.

إلا أن هذه المصيبة التي وقعت على الأسرة المرجعية الشريفة لم تثنِ زعيمها عن مواصلة دربه الجهادي والكفاحي الطويلة، فظل طودا شامخا في مقارعة باطل العراق، كما كان حاله مع باطل جارتها الشرقية! لما أن أحس فيها بأن أمرا يدبّر بليل، وأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن ما كان معلنا عن تطبيق شرع الله؛ يخالفه التطبيق شيئا فشيئا حتى ناقضه!

وظل العظيم على مبدئه، لم يتزحزح عنه ولم يتراجع، فأعلن معارضته للاستبداد والديكتاتورية وولاية الفقيه المطلقة، ودعا إلى الحرية والعدالة وشورى الفقهاء المراجع. ثم لم تمر إلا برهة من الزمن وإذا بالمرجع المظلوم يكتشف إلى جانب ذلك وجها عقائديا منحرفا لأولئك القابعين على رأس السلطة، هو وجه يتجه إلى التصوف والفلسفة والعرفان الزائف، ولم يكن عليه إلا أن يقوم بواجبه في صون عقيدة أهل البيت الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) من بدع هؤلاء وإلحادهم، وكان عليه بالطبع أن يدفع ثمن مجاهرته بالحق!

لم يكن النظام يطيق وجوده، ولكنه لم يكن يجرؤ على إيذائه شخصيا آنذاك، فهو مرجع بحجم أكبر منه داخل وخارج البلاد، فاتجه - كما نظيره في بغداد - إلى إخوته وأنجاله ومقلديه، فاعتقل آية الله العظمى السيد الصادق، وآية الله السيد محمد الرضا، وبعد إهانات وتهديدات أفرج عنهما في اليوم نفسه. ولكن الدور كان على آية الله السيد المرتضى، وأخيه السيد مهدي، والبقية من العلماء والمشايخ والمقلّدين. فأودعوهم السجن الرهيب، وأنزلوا بهم عذابا لا يمارسه صهاينة اليهود! من حرقٍ بالنار وجلدٍ للأجساد وتنكيل مبرح بوسائل تزيد على المئة!

وما أرادوا من كل هذا البطش إلا عمود الخيمة، ورأس إمام المظلومين رضوان الله عليه، فقد راهنوا على أن ذلك سيثنيه أو يجبره على الركوع والاستسلام! ولكن هيهات! متى أسلم الشيرازي العظيم نفسه لأحد غير بارئه؟!

كانت أشد محنة يتعرض إليها، وما أصعبها على قلبه، إذ أبناؤه ومريدوه مودعون في السجون، وإذ جلاوزتهم يأتون إلى باب منزله كل ليلة ليشتمونه ويهينونه، ثم لم يكتفوا بذلك، بل اقتحموا داره وروّعوا من فيها من النساء والأطفال! بل تسلقوا جدار منزله وحاولوا اغتياله بالليل ولكن العناية الإلهية أنقذته، عندما سقط القنّاص اللعين وانكسرت رجلاه قبل أن يضغط زناد سلاحه الذي صوّبه إلى قلب هذا المرجع الكبير!!

وقد كانت العناية الإلهية حقا هي التي أنقذته وحفظته حينما طمأنه صاحب الأمر (صلوات الله عليه) وقال له في القصة المشهورة: "يا محمد! كنا نحفظك.. ومازلنا نحفظك.. وسوف نحفظك"!

أما آية الله السيد أصغر الحيدري فعنده سر آخر في هذا الخصوص، فإنه ينقل أنه في تلك المحنة العصيبة كان قد هرع باكيا إلى منزل إمام المظلومين قدس سره الشريف، وقد خاف أن يصيبوه بمكروه لما وصل إلى مسامعه من أنهم عازمون على اغتياله لا محالة! وما إن شاهد السيد المرجع حتى انكب عليه لاثما يديه، ومقسما عليه بان يترك هذه البلاد ويذهب إلى أي مكان آخر في هذه الدنيا، ولكن السيد الحنون هدأ من روعه وباح له بسر طلب منه أن لا يخبر به أحدا ما ظل على قيد الحياة، وهو أنه في ليلة من الليالي وبينما كان يتجول في باحة الدار ذاكرا الله تعالى، وإذا به يشاهد طائرا مجنحا كبيرا يتلألأ نورا بشكل عجيب، ولم يكن الطائر مماثلا لبقية الطيور الموجودة في الدار، فلفت انتباهه وجوده وشكله الغريب وهالة النور المحيطة به، فاقترب منه لاستطلاع أمره، وإذا بالطائر ينطق بلسان عربي فصيح: "يا محمد الشيرازي! إني مَلَك تهيأت لك بهذا الشكل لأخبرك أني موكل من الله تعالى بحفظك، فلا تخف"!!

حقا.. كم كان هذا المرجع المظلوم عظيما في جاهه عند الله عز وجل، الذي أمر أحد ملائكته بحفظه، حيث قد ورد في بعض الروايات أن الملائكة تظهر لعباد الله الصالحين في صور الطيور والحيوانات.

ومع هذا فإن دموع إمام المظلومين لم تتوقف، وظلت تتساقط من مقلتيه على وجنتيه، فقد أرعبوا أهله وسجنوا أبناءه، ومنعوا دروسه، وصادروا كتبه، وأودعوه قيد الإقامة الجبرية، وحالوا بينه وبين المؤمنين، وأوقفوا جلاوزتهم على باب داره لمنعهم من التشرف بلقائه! كل هذا لأنه رفض أن يبايع الظالمين، وعارض استبدادهم، وعمل على حفظ العقيدة الإمامية الولائية النقية الخالصة من الأفكار الصوفية الشركية!

وثمة تفاصيل ينقلها العلامة الحجة السيد محمد الرئيسي الذي كان معتقلا هو الآخر، لكنه دخل على خط الوساطة في ما بعد. يقول السيد الرئيسي أن رسالة وصلته ذات ليلة من النظام طلبت منه أن يبلغ السيد الشيرازي ما مضمونه أن: "أمامك سواد هذه الليلة فقط.. إما أن تبايع وإلا فغدا تذهب أنت ومن معك إلى السجن لاستلام جثة ابنك مرتضى"!!

واحتار السيد الرئيسي في الأمر إذ كيف يمكنه إبلاغ سماحة المرجع به بالنظر إلى حالته الصحية. لقد كان يشفق عليه، ولكنه لم يجد بدا من ضرورة إبلاغه في تلك الليلة التي كانت من أصعب الليالي على المؤمنين.

توجه السيد الرئيسي إلى البيت المرجعي وطلب لقاء السيد الإمام عاجلا، إلا أن مسؤولي المكتب أبلغوه بان الوقت متأخر وأن سماحته مشغول في هذه الساعة بالتأليف أو العبادة، فمن الأفضل أن تأتي غدا. ولكن السيد الرئيسي أصر على اللقاء لأن الأمر لا يحتمل التأخير، فما هي إلا هذه الليلة!

ذهبوا لإخبار سماحة السيد فوجدوه مشغولا. عادوا إلى السيد الرئيسي فازداد إصرارا! وبعد حوالي الساعة تمكنوا من إخبار سماحته بأن السيد الرئيسي في المكتب ويريد الإذن بمقابلتكم. فأومأ سماحته بالإيجاب.

وتم اللقاء.. وإذا بالسيد الرئيسي يتلعثم.. كيف  له أن يخبر سماحته بهذه المصيبة الجديدة؟! ألا تكفيه مصائبه؟!

وأطلق السيد الرئيسي للسانه العنان بعدما لم يجد مفرا من قول الحقيقة والإبلاغ بالإنذار الأخير، فإذا بالنبأ ينزل على رأس السيد المظلوم كالصاعقة!

يصمت السيد برهة.. ثم يقول: "وماذا يطلبون الآن"؟ يجيب السيد الرئيسي: "إنهم يريدون المبايعة.. أن تكتبوا بخطكم ورقة تؤيدون فيها النظام وتعلنون عن إيمانكم بولاية الفقيه والقيادة الحالية، وتختمونها بختمكم الشريف، وإلا فإن قرار الإعدام سيصدر غدا صباحا بحق السيد مرتضى"!!

وتتجمد عروق إمام المظلومين الراحل، ويحمر وجهه، وتتدهور صحته، فيهرع إليه السيد الرئيسي محاولا تهدئته، فيطلب سماحته ورقة، ويخرج قلمه، ويبدأ بكتابة كلمات بيده التي كانت ترتجف! ثم سلّمها إلى السيد الرئيسي قائلا له: "خذ! أعطها لهم"!

أخذ السيد الرئيسي الورقة وإذا مكتوب فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. أنا محمد الشيرازي أؤمن بشورى الفقهاء المراجع، والحرية الإسلامية، والعدالة والمساواة، والتعددية، والأمة الواحدة. وأرفض الاستبداد والاستعباد، وكل ما يخالف شرع الله جل وعلا، وسيرة أوليائه المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. والله المستعان - الختم الشريف"!!

ينتهي السيد الرئيسي من قراءة الورقة متعجبا فيرفع رأسه وإذا به يجد السيد الإمام قد اغرورقت عيناه بالدموع، ويشهق شهقة ثم يقول: "اللهم انتقم لي من القوم الظالمين"!

ثم يكمل كلامه والعبرة تخنقه: "يريدون قتل ابني مرتضى! فليقتلوه! قد قتل أسلافهم أجدادي! ومَن يكون مرتضى أمام أبي عبد الله الحسين؟ ومن أكون أنا أمام أمير المؤمنين؟ فليقتلوني أيضا.. قد سئمت دنياهم"!!

يحاول السيد الرئيسي ثني الإمام عن موقفه فيقول: "سيدنا أرجوكم.. هناك روح في السجن سيتم إزهاقها غدا إذا لم توقّعوا على الورقة التي يريدون.. أرجوكم انظروا إلى هذه الأولوية"!

يرد السيد المظلوم وقد ابتلت لحيته الكريمة من الدمع: "لا والله لا أبايعهم ما حييت! هل تريدني أن أوقّع على ورقة أنقذ فيها ابني وافتح لهم الباب على مصراعيه لكي يقتلوا الملايين بسببها في ما بعد؟! لا والله أبدا لا يكون ذلك، والله لأشكونهم إلى أمي الزهراء وهي التي ستأخذ بحقي منهم"!

عاد السيد الرئيسي وأوصل رسالة هذا الطود الشامخ الصامد إلى جلاوزة النظام. وعاد قبله آية الله السيد موسى الزنجاني، كما عاد الكثيرون دون تحقيق جدوى، فقد ضرب هذا الإمام العظيم مثلا في الإباء والصبر والتحدي أذهل الجميع!

أرادوا إركاعه.. فأركعهم! كيف؟

بدموعه!! فإنه ذهب إلى مصلاّه، وأخذ يدعو ربّه ويناجي أمه الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) بصوت حزين منكسر. وكان البكاء سلاحه.. وأعظم به من سلاح أجبر النظام المتغطرس أن يفرج عن السيد المرتضى رغم أنفه!

ويوم تم الإفراج.. وعاد إلى والده الحنون، كان ذلك يوم البكاء والدموع!

في تلك الساعة، طلب الأب العطوف من ابنه أن يكشف له عن ظهره وصدره! فامتثل الابن البار، وكاد الإمام أن يسقط أرضا من هول ما رأى!

"أي بني! كيف حرقوا جسدك النحيل وجلدوا بدنك الضعيف"!!

آه.. ثم آه!

كم تحمّل قلب هذا الإمام المظلوم من المحن والمصاعب وظل مع كل هذا صامدا صابرا رغم أن معظم المتملقين انفضوا من حوله في الشدائد وتركوه وحيدا! ولكن عينيه كانتا تفيضان بالدمع وهو يستقبل السماء قائلا: "من كان مع الله فليس بوحيد"!

كم بكى هذا الرجل العظيم وأبكى، فكان بحق سيد البكائين في هذا الزمان!

كان في كل ليلة يمشي في باحة الدار وهو يسبّح الله ويحمده ويذكره بـ (لا إله إلا الله) ألف مرة حتى أذان الصبح، ولطالما شاهده ذووه هنالك يبكي ويمسح دموعه!

عندما أبلغوه بأن بعضهم انتقص من مقام الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) ودورها التشريعي؛ انتفض باكيا وأخذ القلم وشرع بكتابة تلك التحفة العلمية الفريدة التي لم يسبقه إليها أحد: (من فقه الزهراء عليها السلام)!

عندما كان يسمع بما جرى على المؤمنين في العراق في الانتفاضة الشعبانية، أو في أفغانستان أيام العهد الطالباني الوهابي الخبيث، أو في لبنان أو في فلسطين أو في غيرها.. كان يبكي ألما وحسرة، حتى أصابته سكتة قلبية ذات مرة بسبب ذلكّ! وأنقذه الله. حتى أن بعض المشايخ كانوا يخافون أن يعرضوا على سماحته صور الإجرام الصهيوني في لبنان وفلسطين خشية من أن تنتكس صحته ويخسرونه إلى الأبد.. كما خسروه وخسرناه أخيرا!

عندما كان يستمع إلى شكاوى مراجعيه من المؤمنين، كان يبكي لأبسط سبب! فهذا لديه مرض عضال ويطلب منه الدعاء، فيتأثر سماحته ويبكي! وذاك لديه أزمة ما فيجد الإمام الراحل يسبقه إلى البكاء! واشتهر هذا عنه حتى تناقلت الألسن: "السيد الشيرازي صاحب القلب الكبير الكسير"..

حتى في لحظات الفرح، كان يبكي، كما جرى حينما رأى نجله الأكبر آية الله السيد الرضا للمرة الأولى بعد غياب قسري دام تسع سنوات خارج إيران، فاحتضنه باكيا متأثرا وقد انهمرت دموعه على خده!

حتى في الأيام العادية، كان يشتاق إلى البكاء، فيقرأ لنفسه مصيبة من مصائب الأطهار (صلوات الله عليهم) وينوح وينتحب! ولطالما طلب من جلسائه أن يقرءوا له مصيبة جده الحسين أو أمه الزهراء (صلوات الله عليهما) كما جرى ذلك قبل أيام قليلة من وفاته، أو استشهاده بالأصح، حينما طلب من أحد المؤمنين الذين كانوا في محضره الشريف أن يسمعه المصيبة، رغم أن ذلك المؤمن وهو الحاج متين بور لم يكن من قرّاء المصائب! ولكن السيد طلب منه هذا الطلب فلبّاه، ورأى دموعه تجري!

عندما قال قولته المشهورة: "لقد اشتقت إلى كربلاء.." كانت الدموع تختلط بكلماته!

عندما تصفّح قبل أربعة أيام فقط من استشهاده كتابا عن الموت والآخرة، فسالت دموعه وضج بالبكاء!

عندما ودّع ابنته قبل عشرة أيام من رحيله، بكى وقال لها: "إن شاء الله سنلتقي بالجنة" حيث كانت ستغادر قم المقدسة إلى الكويت وظنت أن بمقدورها رؤية أبيها ثانية!

عندما أخبر زوجته قبل رحيله بأيام معدودة أنه مشتاق إلى ابنه السيد المرتضى الذي حُرِم من رؤيته حتى اللحظات الأخيرة، فبكى وأبكى من حوله!

كان بحق سيد البكّائين في هذا الزمان، ولكنه مع هذا كان يحاول الظهور أمامنا بمظهر المتمالك نفسه، فيحبس دمعته إلى أقصى حد ممكن، ولكنه إذا انفجرت لوعته لم يكن يستطيع أن يصمد!

ومع كل هذا.. إنه يطلب منا الآن أن لا نبكي عليه!!(*) فيا مولاي لماذا تحرمنا من البكاء؟! صحيح أنك قد أصبحت الآن حرا منعما في جنة الخلد بعدما كنت سجينا مقيدا في حطام هذه الدنيا.. ولكن البكاء هو متنفسنا الوحيد.. فأرجوك وأتوسل إليك يا ابتاه أن لا تحرمنا من هذا البكاء!

لئن لم تجرِ دموعنا عليك، فلمن تجري يا سيدي؟! أعرف ماذا ستجيب: "ابكوا على الحسين"!

وإننا يا سيدي سنبكي - كما علمتنا - على الحسين.. ولكن ما الحيلة إن كنا كلما بكينا عليه تذكرناك وبكونا عليك؟!! ما الحيلة ونحن كلما استذكرنا آلامك أصابتنا اللوعة فجرت دموعنا؟! ما الحيلة ونحن كلما زرنا مرقدك الشريف نرى الأقدام تطأه بسبب اللئام؛ فلا نتمالك أنفسنا ونجهش بالبكاء؟!

ثم لماذا تطالبنا يا سيدي بأن لا نبكي عليك وأنت لا تزال تبكي - عند ربك - على حال هذه الأمة الضائعة التائهة؟! ترى هل توقفت دموعك الآن؟! كلا.. فقد كان أكثر ما يبكيك في حياتك الدنيوية حال هذه الأمة وحال الشيعة فيها المحرومون من رؤية إمام زمانهم عجل الله فرجه الشريف، المضطهدون من الحكام والسلاطين، القابعون في مجاهل التخلف!!

نعاهدك على أن نعمل ما في وسعنا لأن نحقق أمانيك، وأن نمهد لقيام قائم آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.. ولكن يا سيدي.. البكاء زادنا.. والدموع دواؤنا.. وما دمت تبكي.. فسنظل نبكي.. وما دامت دموعك لم تتوقف.. فستظل دموعنا تجري..

وهل كان لشيعي حقا أن لا يبكي وهو المظلوم طول الدهر والمعاني من أشد أنواع القهر لا لشيء سوى حبّه وولائه لآل محمد الطاهرين الذين ما وقع على أحد من الظلم مثلما وقع عليهم صلوات الله عليهم!

سنظل نبكي..
_____________________

(*) إشارة إلى ما نقلته إحدى المؤمنات من أنها رأت الإمام الراحل في المنام وقال لها: ”لماذا تبكون عليّ؟! لقد كنت في الدنيا مقيّدا سجينا.. وأصبحت الآن حرا طليقا“!

شارك المقال على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp