• تغلب على سورة الأنفال المباركة القضايا والشؤون الحربية. نزلت هذه السورة بعد غزوة بدر التي تعد مفتتح غزوات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الكبريات.
• غزوةٌ انتصر فيها النبي صلى الله عليه وآله ومن كان معه من المسلمين، إلا أن الذي جرى بُعيد هذه الغزوة مباشرة استوجب نزول هذه السورة وهو التنازع.
• لقد تنازع القوم في الأنفال -الغنائم-. قسمٌ منهم اعترض على قسمة النبي وتوزيعه للغنائم، فقال بعضهم لم تعطي بعض من لم يشارك في هذه الغزوة؟ وقالوا نحن أحق بهذه الغنائم!
• قسمٌ آخر اعترض بالقول: إن الذين كانوا في الصفوف الخلفية لا يستحقون أن يأخذوا مثلما نأخذ نحن الذين انغمسنا في العدو.
• وقع نزاع بينهم فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه السورة وقال في مفتتحها بسم الله الرحمن الرحيم (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
• حسم الله الأمر وبيّن أن هذه الغنائم -الأنفال- إنما هي أنفال موكول أمرها وأمر التصرف بها إلى الله والرسول صلى الله عليه وآله، وهو الذي يقدر الأمر ويوزعها كما ينبغي ولا يحق لأحد الاعتراض على ذلك.
• أما ما غلب على هذه السورة فهو الذي قدمناه من أنها سورة تضمنت كثيرا من القضايا والشؤون الحربية، فقد استرسلت السورة في بيان أن فريقا من المؤمنين -المسلمين- كانوا للخروج للحرب كارهين وكانوا يجادلون النبي في ذلك.
• كانوا يريدون درب السلامة والغنائم لا النفير والحرب. فالحرب هو طريق ذات الشوكة والله وعدهم إحدى الطائفتين ولكن الذي ودوه هو العير -الغنائم- فحسب!
• ولذلك كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وليسوا مرتاحين لهذه المواجهة العسكرية خاصة أنها كانت أولى الاختبارات العسكرية الكبرى وكانوا من حيث العدة والعدد أقل من المشركين.
• هذه كانت المعادلة الأولية، عشرون صابرون يغلبوا مائتين، ولكن الله عز وجل خفف هذه المعادلة إذ علم أن في المخاطبين بعض الضعف فقال: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
• ومن هنا ارتكز هذا الحكم في الفقه الإسلامي كما جاء عن الأئمة عليهم السلام أن المقاتل في ساحة الحرب -الشرعية- إذا ما واجهه ثلاثة فلم يستطع أن يقاتلهم جميعا في لحظة واحدة وفر منهم، لا يعد حينئذ من الفارين أو ممن ولى العدو دبره، فله الرخصة بالفرار.
• ولكن إذا من يقاتله إثنان فليس له أن يفر، فإن فر منهما كتب عند الله عز وجل مرتكبا هذه الكبيرة وهو الفرار من الزحف.
• ثم قال الله تعالى (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
• أي يكثر من قتل أعداء الله عز وجل في الأرض ممن لا سبيل لتخليص العالم من الشرور والإرهاب والدمار إلا بقتلهم. فإن اتخاذهم كأسرى لا يزال يُطمعهم بالنجاة ويُطمع من ورائهم بمواصلة الحرب، أما إذا قضي على هؤلاء وخاصة إذا كانوا من الرموز المحرضين على الحرب فإنه حينئذ يمكن تخليص العالم من هذا الشرور.
• نظن أن الجميع قد لاحظ ما في هذه الآيات من لغةٍ حربيةٍ كانت هي اللغة الغالبة على هذه السورة، ومع كل ما تقدم ذكره تبرز هذه الآية وتلفت أنظارنا:
• تلفت هذه الآية أنظارنا لأنها وكأنها تعاكس تجاه سائر آيات السورة، فالآيات تلك بتجاه الحرب والقتال والموت، في حين أن هذه الآية تتحدث عن الحياة وتأمر المؤمنين بأن يستجيبوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم.
• فهل يكون معنى ذلك أن الدعوة إلى الحرب والقتال والموت تكون في جوهرها دعوةً إلى الحياة؟!
• كأن كل هذه الآيات التي ذكرناها أولًا والتي تسير باتجاه الحرب والآلام؛ تقول هذه الآية من جانب آخر إنما هو لما يحييكم، وفي الحقيقة كل تلك الأوامر تحيينا.
• علينا أولًا أن نغير من نمط تفكيرنا وأن نعيد النظر من جديد فإن أمورا قد تبدو أنها تسوقنا إلى الهلاك؛ وهي في حقيقتها تسوقنا إلى الحياة. أمورٌ قد نراها تصيبنا بجراح ولكنها -إن التزمنا بها حقا- تكون بلسما لجراحنا.