بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على شيخنا المجاهد ياسر الحبيب ومَن حوله من المؤمنين ورحمة الله وبركاته ....
كثر اللغط عند بني جلدتنا حول كتاب (مشارق أنوار اليقين) للحافظ رجب البرسي، واتَّهَموه بالغلو وأن الرجاليين لم يوثِّقوه. فماهو تعليقكم؟
المرسل:
عبدالله الإمامي الأحسائي
باسمه جل ثناؤه. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
هو كسائر كتب الحديث والآثار ينبغي إخضاعه للقواعد العلمية لتمييز المأخوذ منه عن المتروك، وذلك حسب ما يُراد استنباطه منه، فإذا كان المراد تأسيس حكم شرعي في العبادات والمعاملات مثلا؛ توجّب إعمال القواعد الأصولية والفقهية وقواعد علم الحديث والرجال. وإذا كان المراد تأسيس مفهوم عقيدي مثلا؛ توجّب إعمال قواعد علم الكلام مع الاستئناس بقواعد علم الحديث والرجال. وإذا كان المراد استخراج معلومة تاريخية؛ توجّب إعمال قواعد علم التأريخ المقارن. أما إذا كان المراد استخراج قيمة أخلاقية فيُكتفى ساعتها بالورود والصدور تسامحا في أدلة السنن. وهكذا يكون لكل مجالٍ قواعده التمييزية، فلا يصحّ الحكم على مثل هذا الكتاب – كلّه - بالقبول أو الرفض، سيما إذا لاحظنا أن الكتب القديمة كانت لها خصوصياتها التي من بينها جمع وتدوين كل ما نمى إلى علم مؤلفها من أحاديث ومعلومات، حفظا للتراث، وتركا لمهمة التمييز لمن يأتي من باب الاستنباط حتى لا يتم الحجر على حرّيته في التقييم وإبداء الرأي.
أما اتهام العلامة الحافظ رجب البرسي الحلي (قدس سره) بالغلو فلم يقع من أحد من علمائنا الكبار، وإنما وصفوا بعض ما ورد في كتابه بالغلو، لا أنهم وصفوه شخصيا بذلك. دقّق مثلا في عبارة الشيخ الحر العاملي صاحب الوسائل إذ قال في تذكرة المتبحرين: "الشيخ رجب الحافظ البرسي، كان فاضلا محدثا شاعرا منشئا أديبا، له كتاب مشارق أنوار اليقين في حقائق أسرار أمير المؤمنين عليه السلام، وله رسائل في التوحيد وغيره، وفي كتابه إفراط وربما نُسب إلى الغلو"، فلاحظ هنا أولا أنه يثني على مؤلّفه، ثم لا يصف كتابه كله بالإفراط وإنما يقول أن فيه إفراط، أي في بعض ما ورد فيه، ثم ينسب إلى غيره إرجاع هذا البعض من الأحاديث إلى الغلو، غير قاطع بذلك بقوله: "ربما نُسب.." فانتبه.
وكذا قول العلامة المجلسي صاحب البحار (قدس سره) إذ قال في مقدمة كتابه: "وكتاب مشارق الأنوار وكتاب الألفين للحافظ رجب البرسي، ولا أعتمد على ما يتفرّد بنقله، لاشتمال كتابيه على ما يوهم الخبط والخلط والارتفاع، وإنما أخرجنا منهما ما يوافق الأخبار المأخوذة من الأصول المعتبرة". فترى هنا أيضا التعبير باشتمال الكتابين على ما يوهم الخبط والخلط والارتفاع، لا أنهما بمجموعهما على هذا النحو، ولذا أخرج منها ما وافق الأصول المعتبرة.
وقد سبق منا الإلفات إلى أن كثيرا من الكتب القديمة كانت معرّضة للدس والوضع والتبديل والتحوير، كما كانت أكثر عرضة للخطأ والخلط، نظرا لصعوبة عملية الاستنساخ آنذاك وندرتها، مما يفتح الباب أمام المغرضين لدسّ ما يشاءون في النسخ القليلة، كما يفتحه لورود أخطاء النساخ بكثرة إذ تتم عملية النسخ يدويا.
وكتاب مشارق الأنوار بالذات تعرّض إلى هذا بشكل لافت، فلاحظ مثلا ما قاله العلامة اغا بزرك الطهراني في الذريعة: "ورأيت نسخة منه بخط جلال الدين بن محمد كتبها في كاشان في محاق ذي القعدة 1008، ولكن بينها وبين المطبوع اختلافات كثيرة وزيادات كثيرة، واختلافات في العبارة بحيث يعدّان كتابين"!
وعلى أية حال، فإن النظرة المتوازنة لهذا الكتاب الشريف ينبغي أن تكون كنظرتنا لكتاب البحار مثلا، فلا نتخذ موقف بعض الجهلة أو الانبطاحيين الانهزاميين ممن يحسبون أنهم شيعة، الذين حاولوا إسقاط اعتبار الكتاب والتشكيك في سلامة عقيدة مؤلفه الجليل، لا لشيء سوى أنه اشتمل على بعض المقامات العاليات لمولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، أو لاشتماله على بعض المثالب الفريدة لأعدائه (عليهم اللعنة) من قبيل أن عائشة جمعت أربعين دينارا من خيانة. واعلم أنهم لم يعمدوا إلى ذلك إلا شعورا منهم بالانهزام أمام المخالفين والنواصب إن أثبتوا ما في الكتاب، وغاب عنهم أنهم إن امتلكوا الثقة في أنفسهم وفي تراثهم وتمسكوا به فإن أحدا لن يتمكن من الاستطالة عليهم بفعل أو مقال!
هذا وحريٌّ بك أن تعلم أن الإمام المظلوم الراحل (قدس سره الشريف) كان قد وصف كتاب مشارق الأنوار بالاعتبار إجمالا كسائر كتب الحديث والتراث المشهورة، وقد ذكر ذلك في معرض استدلاله ببعض ما ورد فيه، وذلك في كتاب الطهارة من موسوعة الفقه. فراجع.
وقد سبقه في ذلك العلامة الأميني (قدس سره الشريف) في موسوعة الغدير، إذ ترجم في الجزء السابع للحافظ البرسي (رضوان الله عليه) وردّ اتهامه بالغلو، وذكر هناك أن الذين اتهموه إنما كانوا من المتأثرين بالاتجاه الانغلاقي السائد آنذاك في قم المقدسة، وهو اتجاه كان يرى مثلا أن نفي السهو عن رسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أول مراتب الغلو! فعلى هذا كيف لا تريد منهم رمي الحافظ البرسي بالغلو مع ما اشتملته مصنفاته من المقامات العاليات لمولانا الأمير عليه الصلاة والسلام؟!
وقد انقرض أصحاب هذا الاتجاه في قم المقدسة مع تقدّم الحوزات وانكشاف الحقائق وتفتّح الآفاق العلمية فأصبح ذكر مثل هذه المقامات أمرا اعتياديا ولا يصطدم مع العقيدة الحقة بشيء، بل هو يعضّدها. ولذا تجد في قواعد علم الرجال اليوم أن ثمة قاعدة تسير عليها الحوزات وهي عدم الاعتناء كثيرا بتضعيفات القميين لمبالغتهم في رمي الآخرين بالغلو حيث كانوا منغلقين أكثر من اللازم ولم يتعمقوا في العلم كما ينبغي ليعرفوا هل أن ما يرويه أو يعتقده الآخرون هو غلو حقا – كما اشتبه عليهم – أم لا.
وفقكم الله وجنّدكم للتعجيل في فرج وليه. والسلام.
الثامن من شهر صفر الأحزان لسنة 1427 من الهجرة النبوية الشريفة.