السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هناك شبهة يتداولها الملاحدة وأهل الكتاب حول نبينا (صلى الله عليه وآله) أرجو من جناب الشيخ الحبيب(حفظه الله) "فضلاً لا أمراً " أن يجيب عليها:
و الشبهة هي حول سبب نزول سورة الكهف المباركة فقد جاء في كتبنا (كتفسير القمي) وكتب أهل الخلاف أن سبب نزولها هو النضر بن الحارث الذي أتى بأسئلة من اليهود يتحدى بها النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يجيب عليها وهي :
من هم أهل الكهف؟
ما هي الروح؟
من هو ذو القرنين؟
والنبي (حسب ما تذكر الروايات) أخلف وعده (نعوذ بالله) فهو قد قال لهم بأنه سيجيبهم غداً ولكنه تأخر عن الإجابة 15 أو 20 أو 40 يوماً (حسب ما تذكر الروايات) حتى شك الناس فيه وكان سبب التأخر أن النبي لم يقل (إن شاء الله) حتى نزلت آية في ذلك.
فيطرح أعداء الإسلام عدة إشكالات على هذه القصة وهي:
1- النبي تأخر عن الأجابة لأنه لم يجد الجواب المطلوب في مصادره التي كان ينقل منها أو أن الأشخاص الذين أستعان بهم لم يعرفوا الجواب(والعياذ بالله).
2- كيف يعاقب الله نبيه ويقطع عنه الوحي مع أنه معصوم بل وهو في مقام التحدي لإثبات نبوته فقط لأنه لم يقل (إن شاء الله) ؟
3-الأجوبة التي أتى بها لم تكن واضحة فأوكل الأمر إلى علم الله فمثلاً لم يخبرهم عن عدد أهل الكهف ولا عن ما هية الروح ولا عن من هو ذو القرنين.
و دمتم بخير.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بمراجعة الشيخ؛
لا يمكن قبول ما تضمنته هذه الشبهة من افتراضات للأسباب التالية:
1- إن الخصم بنى شبهته على روايات في تفسير سبب نزول هذه الآيات، وهذه الروايات هي ذاتها التي أثبتت نبوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فإنه جاء فيها أن أهل الكتاب ميّزوا لأهل الشرك سؤالا من بين تلك الأسئلة الامتحانية قالوا إنْ أجاب عنه النبي وادعى العلم به فهو كاذب في ادعائه النبوة، وهو السؤال عن الساعة أو الروح على اختلاف الروايات. وكان أنْ لم يجب النبي(صلى الله عليه وآله) عن هذا السؤال تحديداً مُرجِعاً علمه إلى الله سبحانه، بخلاف الأسئلة الأخرى التي أجاب عنها تفصيلاً. وهذه الدقة - المتمثلة في جواب مسائل دون واحدة منها على ما حدّده الممتحنون - لا يمكن تفسيرها إلا بكونها آية من آيات صدق النبوة، إذ لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أجاب عن هذا السؤال بمثل ما أجاب عن غيره لأمكن للممتحنين إعلان كذبه إذ لم يميّز بين الأسئلة وأجاب عما لا يمكن الجواب عنه. وليس للخصم رد هذه الحقيقة بعدما تضمنتها الروايات ذاتها التي احتج بها وبنى شبهته عليها.
روى القمي في تفسيره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «كان سبب نزولها - يعني سورة الكهف - أن قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران، النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل السهمي؛ ليتعلموا من اليهود والنصارى مسائل يسألونها رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: سلوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثم سلوه عن مسألة واحدة فإن ادعى علمها فهو كاذب. قالوا: وما هذه المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا وغابوا وناموا وكم بقوا في نومهم حتى انتبهوا؟ وكم كان عددهم؟ وأي شيء كان معهم من غيرهم وما كان قصتهم؟ واسألوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه من هو وكيف تبعه وما كان قصته معه؟ واسألوه عن طايف طاف من مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج من هو وكيف كان قصته؟ ثم أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث مسائل وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه. قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قال: سلوه متى تقوم الساعة؟ فإن ادعى علمها فهو كاذب فإن قيام الساعة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى». (تفسير القمي ج2 ص32) وروى أيضا «أن قريشاً بعثت العاص بن وائل السهمي والنضر بن حارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط إلى نجران ليتعلموا من علماء اليهود مسائل ويسألوا بها رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان فيها: سلوا محمدا متى تقوم الساعة؟ فإن ادعى علم ذلك فهو كاذب، فإن قيام الساعة لم يُطلع الله عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً. فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله: متى تقوم الساعة؟ أنزل الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّـهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (تفسير القمي ج1 ص249)
وقال الواحدي: «إن اليهود اجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمد وحاله: سلوا محمدا عن الروح، وعن فتية فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، فإن أجاب في ذلك كله فليس بنبي، وإن لم يجب في ذلك كله فليس بنبي، وإن أجاب في بعض ذلك وأمسك عن بعضه فهو نبي. فسألوه عنها، فأنزل الله تعالى في شأن الفتية: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ) إلى آخر القصة، وأنزل في الرجل الذي بلغ شرق الأرض وغربها: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) إلى آخر القصة. وأنزل في الروح قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)». (أسباب النزول للواحدي ج1 ص153)
2- إن التحدي الذي وُجِّه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتضمن المبادرة إلى الجواب أو المسارعة إليه، وإنما تضمّن الجواب نفسه عن المسائل الممكن الجواب عنها دون المسألة الخاصة التي لا يمكن الجواب عنها، وهذا ما حصل وبه تحققت الآية وتمّت الحجة. وليس تأخر الجواب بقادح في ذلك لأن المبادرة إلى الجواب أو المسارعة إليه لم يتضمنها تحدي المتحدّين أصلا، فلم يشترطوا مثلاً أن يكون الجواب فورياً كما لم يحدّدوا له أجلاً، ذلك لأن مصبّ التحدّي عندهم إنما كان على معرفة أمور لا يعرفها إلا الأنبياء، وعلى الإقرار بعدم معرفة أمر واحد استأثر الله بعلمه. أما المبادرة إلى الجواب أو المسارعة إليه من عدمها فليست منظورة من جانب المتحدّين أصلاً إذ هي خارجة عن نطاق التحدي، فلقد قالوا لأبي طالب عليه السلام: «يا أبا طالب؛ إن ابن اخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه، ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق، وإن لم يجبنا علمنا أنه كاذب». (تفسير القمي ج2 ص32)
وبعبارة أخرى؛ إن أهل الكتاب عندما استعان بهم المشركون لتحدي النبي صلى الله عليه وآله؛ عيّنوا لهم أسئلة يُمتحَن بها هذا النبي فإن أجاب عنها وامتنع عن واحدة فهو صادق، إذ لا يمكن أن يجيب بهذا النحو إلا الأنبياء. وقد علم أهل الكتاب أن المشركين إنما لجأوا إليهم لأنهم اتهموا محمداً (صلى الله عليه وآله) بأنه «إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» (النحل: 104) وبأن ما جاء به «إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» وأنه من «أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (الفرقان: 5 و6)، ولازم ذلك أنهم لا يعيّنون أسئلة يمكن للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يجيب عنها مستعيناً بأحد ممن يُحتمَل أنه يستعين به أو يتخالط معه، بل لابد أن يكون جواب هذه الأسئلة مما لا يعرفه أحدٌ إلا الأنبياء حصرا، فإذا كان محمد (صلى الله عليه وآله) نبياً صادقاً فلسوف يجيب عنها عاجلاً أم آجلاً، أما إذا كان كاذباً - حاشاه - فلسوف ينكص عن الجواب أو يخطئ فيه، أو يشتبه بين ما يمكن الجواب عنه وما لا يمكن.
إذن؛ كان تحدي المتحدّين في القدرة على (الجواب نفسه) لا في (سرعة الجواب). ولا أدَلَّ على ذلك من أن التاريخ لم يذكر عن أولئك المتحدّين أنهم بعدما أجابهم النبي (صلى الله عليه وآله) رفضوا الجواب بذريعة بتأخره، كما لم يذكر التاريخ عنهم أنهم غلّطوه، بل في الروايات أنهم شهدوا بصدق الجواب وصحته كما سيأتي. وكما سبق بيانه فإنه ليس للخصم رد هذه الحقيقة بعدما تضمنتها الروايات ذاتها التي احتج بها وبنى شبهته عليها.
وبهذا تعرف أن تأخر الجواب ليس معاقبةً للنبي (صلى الله عليه وآله) ولا تخلّياً عنه في مقام التحدي كما توهّمه ضعاف العقول، إذ لو كان كذلك لكان ينبغي أن يكون مؤثّراً على حجّته وبرهانه وآية صدقه، لكن الواقع أنه لم يؤثر رغم تعمّد قريش الاستهزاء وبث الشك قبل النطق بالجواب، إذ سرعان ما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بما طولب به فشهد أهل الكتاب بصدقه وآمن بعضهم، وبذلك تمّت الحجة وعَلتْ آية النبوة وعادت قريش خائبة.
3- إن الوحي الإلهي في مضامينه ومواقيته وأساليب خطابه؛ يرجع إلى حِكَمٍ ويهدف إلى مصالح. وهو إذ ذاك قد ينفرد بما هو غير متوقع في هذه الثلاث (المضامين، المواقيت، الأساليب) تحقيقاً لتلك المصالح. وحينئذ يكون من الطفولية والسطحية تفسير هذا الوحي على ظاهره دون استنطاق بواطنه وضمّها إليه ثم التدبر في مقاصده ومعانيه. كما يكون من الطفولية والسطحية تكوين الانطباعات عن متلقي الوحي بحسب ظاهر أقواله وأفعاله دون الالتفات إلى مغزاها وما تنطوي عليه من مقاصد وما تنشئه من أحكام.
وهذا بحث عميق لا يتسع المجال هنا لتفصيله؛ إلا أنه وعلى سبيل المثال: نجد القرآن الحكيم يخاطب النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بمضمون غير متوقع إذ يقول: «عَفَا اللَّـهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ» (التوبة: 43) فقد يتوهّم مَن يفكر بشكل طفولي سطحي أن الله هنا يلوم نبيّه ويوبّخه على ذنب اقترفه. إلا أن مَن يفكر بعمق يتبدد عنده هذا التوهّم ما إنْ يتدبّر إذ يجد بعد آيتين قوله سبحانه: «وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ اللَّـهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (التوبة: 46 - 47) فيخلص إلى نتيجة: أن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما حقق المشيئة الإلهية الأصلية في إقعاد المتخلفين بالإذن لهم كيلا تنبعث الفتنة! وأن هذه كانت هي المصلحة الحقيقية فليس على النبي (صلى الله عليه وآله) إثم ولا ملامة وإن كان الفعل بالأصل فعله، وإنما توجّه إليه هذا الخطاب من باب (إياكِ أعني واسمعي يا جاره) كما بيّنه الأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام، فالمراد هو بيان عِظَمِ جُرم المتخاذلين القاعدين من المنافقين في صورة ملامة أو عتب من الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله، وهم المعنيّون لا هو. قال الصادق عليه السلام: «ما عاتب الله عزّ وجل به على نبيّه صلى الله عليه وآله مثل قوله: وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا؛ عنى بذلك غيره». (الكافي ج2 ص631)
إذا عرفتَ هذا؛ تعرف أن النبي (صلى الله عليه وآله) حين لم يستثنِ بقوله: «إن شاء الله» إنما كان محققاً للغرض الإلهي بالأصل، وأن تأخر الجواب إنما جاء لحِكَمٍ ومصالح، وأن صورة الخطاب الإلهي وإن كانت موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله؛ ناشئة من فعل واقعي له؛ إلا أن غيره هو المعنيَّ به، أي في قوله تعالى: «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا» (الكهف: 24 -25) فإنه مسبوق بقوله: «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا» (الكهف: 19) وقد روي عن الباقر (عليه السلام) في تفسيرها: «إن ذلك لم يُعنَ به النبي صلى الله عليه وآله؛ إنما عنى به المؤمنون بعضهم لبعض لكُنْهِ حالهم التي هم عليها». (تفسير العياشي ج2 ص324)
أما هذه الحِكَمُ والمصالح فتُستَشَفُّ من مجموع الروايات المعطوف بعضها على بعض في خصوص هذه الواقعة ونظائرها.
ومنها ترسيخ ارتباط النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالوحي إذ ليس له أن يقدّم ولا يؤخّر من تلقاء نفسه، وهذا مما يدفع إلى التصديق بنبوته عند من عاشوا ذلك الحدث. ولقد كانت من النبي (صلى الله عليه وآله) الإشارة إلى ذلك منذ أول الأمر، ففي الخبر أنهم لمّا سألوه المسائل قال لهم: «إني لا أخبركم بشيء إلا من عند ربي، وإنما أنتظر الوحي يجيء ثم أخبركم بهذا غداً» (بحار الأنوار ج93 ص80).
ومنها اختبار أصحابه ليميز الله الموقنين الثابتين من المتذبذبين، ففي الخبر أنه لمّا احتبس الوحي عنه أربعين يوماً «شك جماعة من أصحابه» (المصدر نفسه).
ومنها بيان أهمية الاستثناء في العزم على شيء أو الحلف عليه إذ كل شيء إنما هو بمشيئة الله سبحانه، وتشريع أن للناسي الاستدراك بالاستثناء تالياً كما جاء في الخبر عن الصادق (عليه السلام) في قوله: «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ» قال: «أن تقول: (إلا) من بعد الأربعين، فللعبد الاستثناء في اليمين ما بينه وبين الأربعين يوماً إذا نسي» (الوسائل ج16 ص158) وأنه مع الاستثناء في اليمين فإن المخالفة لا توجب شيئاً لأنها يمين موقوفة كما تقرّر في الفقه (راجع النهاية لشيخ الطائفة ص556).
4- إن الأجوبة التي جاء بها القرآن الحكيم كانت واضحة كل الوضوح على الدقة التي أبهرت الممتحنين. وإنما يتوهم بعض السطحيين أنها غير واضحة بسبب الضعف في اللغة والبيان أو القصور في التدبر أو عدم الالتفات إلى حقائق النزول وآثار التفسير.
أما عدم الإفصاح عن ماهية الروح والاكتفاء بإرجاع أمرها إلى الله سبحانه فلقد تقدّم أنه كان دليلاً على صدق النبوة إذ عيّن الممتحنون هذا السؤال وميّزوه من بين الأسئلة على أنه سؤال ليس لأحد الإجابة عنه لاستئثار الله تعالى بعلمه.
وأما الجواب عن عدد أصحاب الكهف فإن الترديد فيه إنما هو حكاية لما وقع، ففي الخبر عن الصادق عليه السلام: «فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف، وأقبلوا يتطلعون فيه، فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة وسادسهم كلبهم، وقال بعضهم: هم سبعة وثامنهم كلبهم» (تفسير القمي ج2 ص33). ولقد عيّن القرآن القول الصحيح وهو السبعة وثامنهم كلبهم، ذلك لأنه أبطل القولين الأولين بأن أتبعهما بقوله: «رَجْمًا بِالْغَيْبِ» فدلّ ذلك على أنهما من التخمين الخاطئ لأولئك الناس. أما القول الثالث والأخير فلقد أتبعه بقوله: «قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ» فدلّ ذلك على أنه مصادق لعلم الله تعالى بعدّتهم، وأن من يعلم بهذه المصادقة قليلٌ ممن حظيوا بالعلم الإلهي كالأنبياء عليهم السلام. ويدلّ على هذا التعيين ما رواه العامة والخاصة عن أمير المؤمنين والصادق (عليهما السلام) أنهم سبعة لا غير (التفسير الصافي ج3 ص237). وإن من دلائل صدق القرآن بلاغته في مثل موارد التعيين هذه، ومن ذلك قوله عنهم: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا» (الكهف: 26) إذ جاء أن يهودياً سأل أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّا نجد في كتابنا ثلاثمئة. فقال عليه السلام: ذلك بسني الشمس وهذا بسني القمر» (بحار الأنوار ج58 ص352). وإن مجرّد نص القرآن على أن مدة لبثهم كانت ثلاثمئة وتسع سنين كافٍ في تبديد شبهة أن النبي (صلى الله عليه وآله) تعمّد الإجابة بإبهام، إذ الإجابة جاءت هنا أيضاً دقيّة، وبلغ من دقتها حساب السنتين الشمسية والقمرية، إذ المعلوم أن السنة القمرية تفرق عن الشمسية بإحدى عشر يوماً تقريباً، فيكون معادل ثلاثمئة سنة شمسية هو ثلاثمئة وتسع سنين قمرية تقريباً، إذ لا يُلتفت للفارق القليل للتغليب.
وأما الجواب عن ذي القرنين فإنه جاء على ما طلبه الممتحنون بدقة، فمن الغريب القول بأنه لم يجبهم عن شخصيته، إذ السؤال كان عن «طائف طاف الشرق والغرب من مطلع الشمس إلى مغربها؛ كيف كان خبره»؟ (بحار الأنوار ج93 ص80) وهذا ما تم في الجواب حيث ذُكر طوافه وخبره بالتفصيل حتى شهدوا أن الأمر كما قال، وكان (صلى الله عليه وآله) قد أنبأهم بما جاءوا يسألونه عنه قبل أن ينطقوا. ففي الخبر عن الكاظم والصادق عليهما السلام: «فدخلوا عليه فقال: أتسألوني عما جئتم له أم أنبئكم؟ قالوا: نبّئنا. قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين. قالوا: نعم! قال: كان غلاماً من أهل الروم ثم ملك، وأتى مطلع الشمس ومغربها، ثم بنى السد فيها. قالوا: نشهد أن هذا كذا» (قرب الإسناد للحميري ص322) وفي خبر المخالفين: «نشهد أن أمره هكذا كما ذكرت، وإنّا نجده هكذا في كتابنا» (الدر المنثور للسيوطي ج9 ص635).
ولو أن الأجوبة لم تكن واضحة لظهرت آثار استهزاء أهل الكتاب والمشركين بها ولقيلت في ذلك الأشعار، غير أن التاريخ لم يسجل لنا سوى إفحام خصوم النبي (صلى الله عليه وآله) وممتحنيه، وما ذلك إلا لأن الأجوبة كانت واضحة وافية، ولا أدل على ذلك من أن الروايات تذكر انبهار القوم بها وشهادتهم على أنها حق. إذ جاء: «فلما كان بعد أربعين صباحاً نزل عليه بسورة الكهف وفيها قصص ثلاث مسائل والمسألة الأخرى، فتلاها عليهم، فلما سمعوا بهرهم ما سمعوه وقالوا: قد بيَّنتَ فأحسنتَ» (بحار الأنوار ج93 ص8).
وفقكم الله لمراضيه
مكتب الشيخ الحبيب في لندن
2 جمادى الأول 1438 هجرية