س١: شيخنا الجليل بارك الله فيكم.. بودي لو أوضحتم ما مدى تأثير الغلاةِ على عقائد الشيعة وما نسبتُه من وجهة نظركم، أي كم بالمائة يُمثل ذلك التأثير؟
س٢: كثير من أحاديث الغلاة صيغت بذوق فلسفي.. ألا يمكن أن يكون التأثير الباطني في اللّاوعي جعلَ بعض من دَرَسَ الفلسفة وتعمّق فيها ولو بقصد إبطالها يستقبل أحاديث الغلاة والنصيرية ويتأثر بها فيقول أنّ جميع صفات الخالق المقصود بها الإمام ويُثبت له جميع صفات الإله ما عدا الوجود الواجب؟! يعني بحسب اطلاعنا نجد أنّ تلك العقيدة التي تضاهي ما يسميه الرومان نصف إله متغلغلة عن جهل لدى كثير من الشيعة. فما قولكم شيخنا؟!
س٣: هل يمكن العمل على تأسيس مشروع منصة مرئية يمتلكها الشيعة وبالتحديد اتحاد خدام المهدي عليه السلام بحيث تضاهي منصة يوتيوب وتتفوق عليها؟!
س٤: ما أهم وأشد عقبة واجهت شيخنا الحبيب في مسيرته الجهادية الحافلة؟
س٥: هل من الممكن أن نرى قريبا سلسلة: كيف زُيف التشيع من خلال التمهيد بمقدمات على شكل حلقات توعوية وتنبيهية لرفع مستوى الوعي بما يمنع ويحد من النتائج السلبية التي يتوخاها سماحتكم على أثر طرح تلك السلسلة التي نحن في أشد الشوق إليها؟
س٦: شيخنا ماترون من سبيل لنشر المنهج في البحرين ؟ وماذا أفعل مع الصفوف التي تفترق عني في نصف الطريق خوفًا ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بمراجعة الشيخ،
ج1: لم يعد للغلاة ذلك التأثير الواسع على عقائد السواد الأعظم من شيعة أهل البيت صلوات الله عليهم، وذلك بفضل خطط أئمتنا وثقات أصحابهم ومتكلميهم في محاصرة الغلاة وقمع باطلهم والقضاء على نفوذهم، ولذا تجد أن معظم الفرق المغالية قد انقرضت على تعددها وكثرتها، كالكيسانية والعجلية والخطابية والمغيرية، ولم تبقَ إلا فلول على هامش الخط الرسمي للشيعة، كالإسماعيلية والنصيرية. وأما تلك التي تدعي أنها شيعية إمامية؛ فعلاوة على كونها حادثة فإنها لا تعدو كونها مجموعات صغيرة، في جيوب محدودة، ذات تأثير ضيق، تظهر وتختفي كالفقاعات من حين لآخر.
وقد اعترف العدو بدور أئمتنا عليهم السلام في كفِّ الغلاة ومحو باطلهم، فهذا ابن خلدون يقول: «وقد كفانا مؤونة هؤلاء الغلاة أئمة الشيعة، فإنهم لا يقولون بها ويبطلون احتجاجاتهم عليها» (تاريخ ابن خلدون ج1 ص250). وهذا الاعتراف جاء منه على وقاحته في قوله: «وشذَّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح» (المصدر نفسه ج1 ص564). وينبئك هذا عن أن العدو لئن كان يأخذ على الخط الرسمي للأئمة وشيعتهم أمورا كقدح من يسمونهم الصحابة؛ لعلمه بأن ذلك أصيل في التشيع وقول الأئمة؛ فإنه لا يملك أن يأخذ عليه الغلو والغلاة، لعلمه بأن ذلك دخيل في التشيع، أجنبي عن قول الأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام، الذين تصدوا للغلاة وأقوالهم أعظم التصدي، وتبعهم على ذلك ورثتهم من العلماء الأبرار إلى يوم الناس هذا، ما جعل من ظاهرة الغلو في المحيط الشيعي؛ ظاهرة ضيقة محدودة بحمد الله تعالى.
نعم؛ ليس يُنكر أن بعض الغلاة حين يتسللون إلى أروقة الحوزات ويتسربلون بسربال العلماء ويحاكون طريقتهم؛ يكون لهم بعض التأثير، حيث يشتبه على السذج والعوام التمييز بين العالم الحقيقي والعالم المنتحل المزيَّف، ولا سيما إذا عزف هؤلاء الأخابث على لحن العواطف وزعموا للناس أنهم يقرِّبونهم أكثر من معرفة مقامات أهل البيت عليهم السلام ويعمِّقون الولاء لهم. بيد أن رعاية مولانا صاحب الأمر صلوات الله عليه لشيعته؛ تجعل تأثير هؤلاء - على ضعفه - ينحسر إلى أن يتبدد. ذلك أن تاريخنا منذ وقوع الغيبة حتى الآن يشهد بأن نزعات الغلو ونزعات التقصير أيضا؛ تتضاءل مهما تضخمت وتتضيق مهما اتسعت، فلئن راجت - كصرعة أو موضة - في فترة ما من فترات الغفلة؛ حتى يُخيَّلَ للمرء أنها أصبحت اللون الطاغي على الطائفة؛ تبدد خياله مع أول اختبار عام حين يرى السواد الأعظم من الطائفة لا يزال ملتفا حول النيابة العامة الحقة المتمثلة بالمراجع العدول، كما أمر الموعود عجل الله فرجه. فكان هذا الالتفاف ضمانا لبقاء جمهور الشيعة غير آبهٍ بالمنتحلين، متمسكا بالعقيدة الحقة على النُّمرُقة الوسطى، كما أمروا عليهم السلام.
ج2: ذلك ممكن ثبوتا، ويبقى عبء الإثبات الذي يحتاج إلى استقراء، إذ لا نعرف تغلغل عقيدة (نصف الإله) لدى «كثير» من الشيعة. ولا ينبغي احتساب الجهلة والمعاقين فكريا والمنحرفين، إنما يحتُسَبُ مَن افترضتم أنه درس الفلسفة بغية إبطالها فوقع من غير إدراك في براثن هذه العقيدة الكفرية اليونانية المستوردة. فمن هؤلاء؟
ج3: من حيث المبدأ؛ هو عمل حسن مطلوب، ولعل الإخوة في الاتحاد يضمونه إلى قائمة مشاريعهم في المستقبل. إلا أنه لا محل لتمني النفس أن تتفوق هذه المنصة على منصة اليوتيوب، ذلك لأن تفوقها عليها لا يمكن تصوره إلا في فرضين؛ أولهما أن لا تكون منصة دينية علمية توعوية بحتة، فتتحول - كتلك - إلى منصة ترفيهية لهوية عامة يرى فيها الناس متعتهم أكثر، وهذا غير جائز بطبيعة الحال لما ستشتمل عليه المعروضات من محرمات ومنكرات، علاوة على التفاهات والسخافات. أما ثاني الفرضين فهو أن تترك أكثرية أهل الأرض الكفر والفساد والابتذال وتأخذ بالإيمان والصلاح والرقي، فيكون تفوق المنصة الجديدة راجعا لإقبال الناس عليها وهجرهم تلك المنصة الملوثة، وهذا - كما ترى - بعيد المنال في الوقت الحاضر، مع إيماننا المطلق بأنه سيأتي يوم على البشرية تعود فيه إلى فطرتها بعد أن تدرك فداحة ما أوقعت نفسها فيه.
نعم؛ يمكن أن تتفوق المنصة الجديدة - علاوة على التفوق التقني - لا من حيث كثرة الإقبال بل من حيث المضمون النوعي المفيد، بحيث يكون أكثر تلبية لحاجات البشر على اختلاف مشاربهم، لا الشيعة وحدهم، وإلا صارت مجرد منصة محلية ضعيفة، في حين أن المراد أن تكون منصة عالمية، يكون مضمونها جاذبا للشعوب جميعا، إذ يجدونه يلبي حاجاتهم دونما اضطرار للمرور على ملايين المقاطع المقترحة التي تحمل من التلوث والإسفاف ما تحمل. عندئذ يكون سريان الثقافة الشيعية إلى تلك الشعوب انسيابيا دونما إشعار بأنه أمر مدبَّر أو مخطط له، كما سرت الثقافة الغربية إلينا وإلى غيرنا، وما ذلك إلا لكثرة المعروضات التي تترجم هذه الثقافة وتعكسها تلقائيا. هذا هو الذي نسميه بـ «التبليغ الخفي الذكي»، وهو يعتمد على أن تساعدنا الأمة بالتغذية الثقافية المسؤولة والمبتكرة لهذه المنصة.
ج4: العقبات الجسام كثيرة، لعل كتابا ضخما من مجلدين أو ثلاثة لن يسع ذكرها وتفصيلها! إلا أن أشدها وأنكدها؛ ضعف ثقة الإنسان الشيعي بنفسه، واستمراؤه الذل والهوان، وغلبة الفكر الانكماشي عليه، فهذا الذي جعل كثيرين لا يتخيلون إمكان نجاحنا في فكرنا التحرري التوسعي وما نصبو إليه من اختراق المجتمعات وتصدير الثقافة الشيعية إلى العالم بكل مفرداتها الصريحة وصولا لبسط السيادة الحضارية الشيعية، إذ رأى بعضهم هذا التوجه منا خروجا عن الحكمة والتقية بزعمهم فعادونا! ورآه آخرون تجاوزا لحجم الشيعة وقدرتهم الواقعية فخذلونا! ولولا أن منَّ الله تعالى بدعم إمامنا القائم صلوات الله عليه لما كان لنا أن نتحرك خطوة واحدة إلى الأمام، ذلك لأن المعضلة النفسية أصعب المعضلات، فإن لك أن تنهض بفقراء، ولك أن تنهض بضعفاء، ولك أن تنهض بجهلاء.. كل ذلك أيسر من أن تنهض بمن لديهم معضلة نفسية. فالفقراء تفتح أعينهم على موارد الرزق فيرتزقون، والضعفاء تدرِّبهم وتمرِّنهم حتى تستقيم أبدانهم وتقوى، والجهلاء تعلِّمهم وتثقفهم حتى تستنير عقولهم. أما من لديهم معضلة أو عقدة نفسية؛ فما أصعب أن تعالجهم لتنهض بهم!
ولله درُّ مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه الذي كان يخاطب من زعموا أنهم له شيعة بقوله: «ما بالكم؟! ما دواؤكم؟! ما طبِّكم»؟! (نهج البلاغة: 29)
ج5: لا! فإني كلما جرَّبْتُ أن أتطرق إلى شيء من هذا على هامش بعض البحوث والمحاضرات السابقة؛ كاختبار لمستوى وعي الجمهور؛ كلما أبعدني ما وجدته من عقبى عن الشروع في هذه السلسلة الخطرة.
لم تصل الأمة بعد - مع الأسف - إلى مستوى من الأهلية الإدراكية التي تسمح باستقبال هذا الخطاب واستيعابه دون أن تضطرب أو تشط.
ج6: التعبئة العلمية والمنهجية أولا، فإنه ليس لهذا المنهج أن يفرض نفسه دون أن يكون حَمَلَتُهُ من المتقدمين علميا بحيث لا تقوم حجة لمن يناظرهم أو يقابلهم.
وكذا لا بد لهؤلاء الحَمَلَةِ من تقوية الملكة الأدبية ليكون لهم لسان بليغ مؤثر قادر على استمالة القلوب واجتذاب العقول.
ثم الاهتمام بتجنيد فئتين؛ الأولى مَن يملكون أزمَّة المجتمع من أهل العلم والوجهاء والمؤثرين، والأخرى الشباب والأحداث، فإنهم أسرع إلى كل خير كما قال الصادق صلوات الله عليه.
والاهتمام كذلك بتوفير الوفرتين؛ البشرية والمادية، فإنهما العون على تحقيق الطموحات.
ثم نظم الأمور وتنسيق الجهود في كيانات اتحادية ترسم خططا تنفيذية على المدى البعيد، فإن تغيير واقع المجتمعات يحتاج إلى صبر وأناة، مع أن الله تعالى قد يمنّ على عباده الصابرين بتعجيل النصر فتُختَصر المراحل وتُطوى في فترة زمنية أقصر.
ومما ينفع في تمدد المنهج في بحرين الولاء؛ التذكير بتاريخ هذا البلد العريق في الرفض، والإسهاب في بيان الشواهد من سيرة القدماء وعلماء البحرين الأماجد رحمة الله عليهم. كل ذلك لينتبه الفرد البحراني إلى حقيقة أن هذه الهوية الرافضية هي هوية أهل البحرين منذ القدم، وأن ما تطرحه الأحزاب والتيارات اليوم ما هو إلا أمر دخيل طارئ ليست له أصالة في تاريخنا. وبذا يتضاءل أمر هذه الأحزاب والتيارات الفاسدة إلى أن يتبدد، وتعود البحرين إلى أصالتها، ويؤدي شعبها الأبي دوره في الثورة الحقيقية التي تستأهل التضحيات، وهي ثورة تحرير الإنسان الشيعي ونشر التشيع في العالم، لا هذه الثورات السياسية العبثية التي قادتها أحزاب الضلالة وتيارات الخيبة، التي لم تعد على الإنسان الشيعي إلا بالشؤم.
وهؤلاء الذين يتركونك في منتصف الطريق خوفا؛ اتركهم فإن الخير في تركهم لك، فأن يتركوك في منتصف الطريق - وهذه حالهم من الجبن والخوف - خير لك من أن يتركوك وأنت تشارف على الوصول إلى مبتغاك بعد عناء طويل، فإن تركهم إياك حينئذ قد يكون أخطر في إحباط المراد وانهيار ما بُني. ولا تنزعجنَّ من توالي الترك والخذلان، فكل ذلك خير. إنما هو عبءٌ قد زال، ويعوضك الله عنهم بأضعافهم ما دمتَ للحق ناهجا. المهم أن لا تيأس؛ فكلما خذلك أناس أو تخلوا عنك خوفا أو اضطرابا؛ ابدأ مع أناس جدد، وهكذا إلى أن يستقر أمرك مع الصلحاء الشجعاء.
وفقكم الله لمراضيه.
مكتب الشيخ الحبيب في أرض فدك الصغرى
24 جمادى الآخرة 1444 هجرية