السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ما رأي سماحة الشيخ الحبيب (حفظه الله) في كلام السّيد المجدد الشيرازي الثاني (رضوان الله عليه) في شرح نهج البلاغة أثناء شرحه لكلام له (عليه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم عندما يأتي قول أمير المؤمنين (ولها بعد حرمتها الأولى) يقول المجدد الثاني: ((ولها بعد) أي بعد ذلك الذي تقدمت بها إليّ (حرمتها الأولى) فإني أحترمها كما كنت أحترمها سابقاً - لأجل رسول الله - ). (شرح نهج البلاغة للمجدد الثاني ص٢٩١). دمتم بخير وتوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
جواب المكتب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا التفسير خاطئ من المجدد الشيرازي رحمه الله. وقد بيَّن سماحة الشيخ معنى هذه العبارة من أمير المؤمنين صلوات الله عليه في عائشة لعنها الله في رده على البالون الخبيث كمال الحيدري على مدى أربع ليالي في الليالي الرمضانية لسنة 1433 ((26 - 29، فراجع.
https://www.al-qatrah.net/visection39
كما بيَّن سماحته معنى العبارة هذه في كتاب الفاحشة الوجه الآخر لعائشة في الصفحة 753 وما بعدها في باب (وأية حرمة للتي انتهكت الحرمة؟!) حيث قال الشيخ:
يتشدّق المخالفون والبتريّون ومَن انساق وراءهم من الغافلين بكلام لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) خاطب به أهل البصرة لترويج دعوى عدم جواز القدح في عائشة ووجوب احترامها لأن لها حرمة خاصة في الإسلام!
وكلام الأمير (عليه السلام) هو ما تقدّم مما وعدنا ببسط الكلام فيه، وهو قوله: «ولها بعدُ حُرمتها الأولى، والحساب على الله تعالى».
ودعوى هؤلاء أوهن من بيت العنكبوت، إذ لو كان المراد بهذا الكلام هو ما يزعمون من حرمة القدح في عائشة أو ذمّها؛ لكان كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ينقض آخرُه أوله! لأن أوله ذم صريح لها، وهذا تمام كلامه عليه السلام: «وأما عائشة فأدركها رأي النساء، وضِغْنٌ غلا في صدرها كَمِرجَلِ القَيْن! ولو دُعِيَت لتنال من غيري ما أَتَتْ إليَّ لم تفعل! ولها بعد حُرمتها الأولى، والحساب على الله تعالى».
ولو كان المراد هو ما يزعمون لكان مناقضاً للقرآن والحديث والسيرة، أما القرآن فلأنه تضمّن من الآيات في ذم عائشة وحفصة وإلحاقهما بزوجتيْ نوح ولوط (عليهما السلام) ما سبق ذكره في الفصل السابق، وأما الحديث والسيرة فتلكم أحاديث رسول الله والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) التي عدّدنا كثيراً منها آنفاً في ثلب عائشة والقدح فيها، وهي سيرة قطعية تشهد على بطلان هذا التأويل الفاسد الذي يؤوِّل به هؤلاء كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ويحمّلونه أكثر مما يحتمل.
وينضمّ إلى سيرة النبي وآله (عليهم السلام) في هذا الشأن سيرة أصحابهم الأبرار، الذين لم يجدوا حرجاً شرعياً في ثلب عائشة بالحق، بل والمطالبة بإهدار دمها وقتلها! كما فعله أبو اليقظان عمّار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليهما) في الحديث الذي رواه المخالفون، فقد روى ابن قتيبة في تفاصيل ما جرى في وقعة الجمل: «وعُرقِبَ الجمل الذي عليه عائشة، وانهزم الناس، وأُسِرَتْ عائشة وأُسِرَ مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان وموسى بن طلحة وعمرو بن سعيد بن العاص، فقال عمار لعلي: يا أمير المؤمنين؛ اقتُل هؤلاء الأسرى! فقال علي: لا أقتل أسير أهل القبلة إذا رجع ونزع».
والمطالبة بقتل أحدٍ كاشفٌ عن أن المطالِب لا يرى للمطلوب قتله حرمة الدم وهي أعظم الحرمات، فحرمة جرحه أو ثلبه أو التشنيع عليه - وهي أخف - تكون إذ ذاك منتفية عنده بطريق أولى. وعمّار الذي كان من كبار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفقهائهم لا يُتصوَّرُ عنه في هذا المقام إلا أنه لا يرى لعائشة حرمة مطلقاً بحجة اعتصامها بعصمة الزواج برسول الله صلى الله عليه وآله، فهذه العصمة أو العلقة الاعتبارية تنتفي حين تخونه وتخرج على خليفته، ولذا طالب عمار بقتلها مع سائر أسرى الجمل جزاءً لمحاربتها إمام زمانها، إلا أن هذا الإمام (عليه السلام) امتنع عن قتلهم على سبيل المنّ دفعاً للمفسدة الأعظم، كما سيتضح لك بعد برهة.
وقد سبق منّا مفصّلاً في التوطئة ردّ مزاعم الساعين لتحريم نقد عائشة ولصون ذاتها كما تُصان ذات رسول الله صلى الله عليه وآله، فراجع.
ومن ثمَّ؛ لا ريب في أن قول أمير المؤمنين عليه السلام: «ولها بعدُ حُرمتها الأولى» لا يحمل بحالٍ إرادة المنع من ثلب عائشة، فهذا تأويل مبالغ فيه. فما هو المراد بالحرمة إذن وما كان القصد من هذا البيان؟ الجواب يكون بملاحظة مجاري الأحكام والتأمل في الأحاديث الشريفة المعلّلة لما وقع من أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد الجمل، فهاك التفصيل.
إن الإنسان إذا أسلم تَحرَّم بحرمات ثلاث هي حرمة الدم، وحرمة العرض، وحرمة المال، ويجمعها عنوان (حرمة الإسلام) مع صرف النظر عن صدق إسلام هذا الإنسان في القلب والسريرة، فحتى لو لم يكن مصدّقاً بقلبه - كالمنافق والشاك - فإنه يكفي أن يصدّق بلسانه ليجري عليه الحكم ويتحرّم بحرمة الإسلام. ولا تنسلخ عنه هذه الحرمة إلا إذا أتى بناقض من النواقض، كالارتداد أو محاربة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) أو إنكار الضروري أو الزنا مع الإحصان وما إلى ذلك مما يجوز بسببه قتله وإباحة عرضه وتوريث ماله أو ضمه إلى بيت المال.
وإن المرأة إذا تزوّجت أحداً فإنها تتحرّم بحرمته، فلا يجوز أن يتعرّض لها الرجال، كأن ينكحها أحدهم أو أن يخطبها أو يغريها بالطلاق ليتزوّجها أو أن يجتمع بها - ولو بغير خلوة - دون إذن الزوج، لأنها حينئذ (حرمة الرجل) الذي يجب حفظه فيها ما دام حياً ولم يطلّقها. فإذا كان هذا الرجل هو خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) فإن الحرمة حينذاك تمتد وتتسع لتكون (حرمة النبي). أما امتدادها فهو إلى ما بعد استشهاده (صلى الله عليه وآله) فتحرم المرأة على غيره حرمة أبدية، وأما اتساعها فهو لكل ما من شأنه المبالغة في سترها عن الرجال ولذا وجب أن لا تُسأل متاعاً إلا من وراء حجاب وأن تقرّ في بيتها ولا تخرج إلا للضرورة القصوى. ولا تنسلخ عنها هذه الحرمة الخاصة إلا إذا أتت بناقض من النواقض، كالارتداد أو الخيانة أو التبرّج أو الخروج على الخليفة الشرعي وما إلى ذلك مما يجوز بسببه قتلها أو سبيها أو تطليقها وإباحة الزواج بها على ما سبق بيانه في الفصل الثاني.
والشاهد على معنى (حرمة النبي صلى الله عليه وآله) وضرورة حبس زوجته في بيتها وحفظها عن أن تبرز أمام أعين الرجال؛ ما تقدّم من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي أنكر به على طلحة والزبير حين قال: «فخرجوا يجرّون حُرمة رسول الله صلى الله عليه وآله كما تُجرُّ الأَمَة عند شرائها! متوجّهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما وأبرزا حبيس رسول الله صلى الله عليه وآله لهما ولغيرهما»!
وهذا المعنى للحرمة تدركه عائشة جيداً، فقد تقدّم أنها حاولت التشنيع على الإمام (صلوات الله عليه) بقولها: «اللهم افعل بعلي بن أبي طالب وافعل! بعث معي الرجال! ولم يحفظ بي حرمة رسول الله»!
إذن؛ فليس المعنى من (حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله) في مثل هذا المقام إلا هذا، وهو أن يُبالَغ في سترها وحفظها في بيتها لئلّا يتعرّض الرجال إليها ولو بالنظر إلى ظلّها.
إذا عرفتَ ذلك؛ فنقول أن الحرمة التي عُنيت بقوله عليه السلام: «ولها بعدُ حُرمتها الأولى» إما أن تكون (حرمة الإسلام) أو هي و(حرمة النبي صلى الله عليه وآله)، وعلى التقديريْن ليس ثمة إرادة أو بيان لحرمة ثلب عائشة، ذلك لأن (حرمة الإسلام) لا تعني إلا حرمة الدم والعرض والمال، و(حرمة النبي صلى الله عليه وآله) لا تعني إلا إرجاع عائشة إلى مسكنها وإرخاء الستر عليها، وهذا ما تمّ.
ولئن سألتَ عن الداعي لهذا البيان من أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا كان هكذا تحصيلاً للحاصل؟ قيل في جوابك: إنه (عليه السلام) بعدما أفصح في أول كلامه عن إثمها وجُرمها وكشف عن عظيم حقدها وأظهر الشكوى من فعلتها؛ أراد في آخر كلامه إعلام أهل البصرة أنه لن يعاقبها بما تستوجب شرعاً، فقد كان بإمكانه (عليه السلام) أن يسقط ما لها من الحرمة بعدما هتكتها بنفسها، وأن يقتلها أو يسبيها، إلا أنه استبقاها باستصحاب ما كان لها من الحرمة على سبيل المنّ منه عليها قائلاً: «ولها بعدُ حُرمتها الأولى، والحساب على الله تعالى» فأوكل أمر جزائها إلى ربّه جل وعلا. واستصحاب أو استبقاء حرمتها بعد انتفائها يومئ إليه تعبيره (عليه السلام) عنها بالحرمة «الأولى»، وقد كان بإمكانه أن يقول مثلاً: «ولها بعد حرمتها والحساب على الله تعالى» إلا أنه أضاف ذلك الوصف بهذا اللحاظ لهذه النكتة على الأرجح.
وبعبارة أخرى: إن عائشة بعد الذي أحدثته من خروجها ومحاربتها لإمام زمانها (عليه السلام) وقتلها لخيار الناس وإيقاعها الفساد في الأرض؛ لم تبقَ لها حرمة مطلقاً، فكان بإمكان الإمام (عليه السلام) قتلها أو استرقاقها، كما كان له قتل سائر الخارجين عليه واسترقاق نسائهم واغتنام أموالهم، إلا أنه (عليه السلام) منّ عليهم كما منّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أهل مكة حين فتحها، فصار أهل الجمل من طلقائه عليه السلام، ومنهم عائشة التي أُرجعت إلى مسكنها في المدينة استصحاباً للحرمة الأولى.
والأحاديث التي تدل على هذا المضمون كثيرة، منها ما رواه الطبرسي والطبري الإمامي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إني مننتُ على أهل البصرة كما منَّ رسول الله صلى الله عليه وآله على أهل مكة، فإن عدوا علينا أخذناهم بذنوبهم، ولم نأخذ صغيراً بكبير».
ومنها ما رواه الطوسي عن زين العابدين (عليه السلام) إذ سُئِل: «بما سار علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فقال: إن أبا اليقظان كان رجلاً حادّاً رحمه الله، فقال: يا أمير المؤمنين؛ بما تسير في هؤلاء غداً؟ فقال عليه السلام: بالمنّ كما سار رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل مكة».
ومنها ما رواه الكليني عن الصادق عليه السلام: «الواجب على أمير المؤمنين عليه السلام أن يعدل فيهم حيث كان ظفر بهم كما عدل رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل مكة، إنما منَّ عليهم وعفا، وكذلك صنع أمير المؤمنين عليه السلام بأهل البصرة حيث ظفر بهم مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وآله بأهل مكة، حذو النعل بالنعل».
ومنها ما رواه الصدوق عن الباقر عليه السلام: «لولا أن عليّاً عليه السلام سار في أهل حربه بالكفّ عن السبي والغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاءً عظيماً. ثم قال: والله لسيرته كانت خيراً لكم مما طلعت عليه الشمس».
ومنها ما رواه الصدوق أيضاً عن الصادق عليه السلام: «إن عليّاً عليه السلام إنما منَّ عليهم كما منَّ رسول الله صلى الله عليه وآله على أهل مكة، وإنما ترك علي عليه السلام لأنه كان يعلم أنه سيكون له شيعة، وأن دولة الباطل ستظهر عليهم، فأراد أن يُقتدى به في شيعته، وقد رأيتم آثار ذلك، هو ذا يُسار بسيرة علي عليه السلام، ولو قتل علي عليه السلام أهل البصرة جميعاً واتخذ أموالهم لكان ذلك له حلالاً، لكنه منَّ عليهم ليُمَنَّ على شيعته من بعده».
ومنها ما رواه الطوسي عن الصادق عليه السلام: «إن عليّاً عليه السلام سار بالمنِّ والكفِّ لأنه عَلِمَ أن شيعته سيُظهر عليهم، وإن القائم إذا قام سار فيهم بالسيف والسبي، وذلك أنه يعلم أن شيعته لن يُظهر عليهم من بعده أبداً».
ومنها ما رواه الطوسي أيضاً عن الصادق عليه السلام: «لسيرة علي عليه السلام في أهل البصرة كانت خيراً لشيعته مما طلعت عليه الشمس، إنه عَلَمَ أن للقوم دولة فلو سباهم لسُبيت شيعته. قلتُ: فأخبرني عن القائم أَ يسير بسيرته؟ قال: إن عليّاً عليه السلام سار فيهم بالمنّ لما عَلِمَ من دولتهم، وإن القائم يسير فيهم خلاف تلك السيرة لأنه لا دولة لهم».
وهذه الأخبار توقفنا على علة مَنِّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عليهم، إنه لم يمن عليهم لاستحقاقهم ذلك؛ بل منَّ عليهم دفعاً لمفسدة أشد وهي أن يكرّوا بعد استشهاده (عليه السلام) على شيعته فيسبون نساءهم انتقاماً لسبيه نساءهم بعد الجمل لو كان فعل. وإذ أنبأه الله تعالى بأن لأعدائه دولة جائرة من بعده هي دولة بني أمية؛ عمد الإمام (عليه السلام) إلى المنِّ ليُتَّخذ ذلك سيرة ويضطر القوم لأن يسيروا بها ولو بداعي المقابلة بالمثل.
وعلى هذا؛ لقد كان بإمكان أمير المؤمنين (عليه السلام) قتل أو سبي عائشة مثلاً، فهو الإمام وله ما لرسول الله صلى الله عليه وآله، سواءً قتل وسبى أم صفح وعفا، بحسب ما يراه من المصلحة، إلا أن ذلك لو وقع لاستتبع من المفاسد والمضاعفات الخطيرة ما قد لا يُتَخيَّل، إذ يكفي أنه كان سيُحدث بلبلة واضطراباً في جيشه الذي كان عامّته من المخالفين، وما كان هؤلاء ليتحمّلوا أن يروا عائشة تُسبى مثلاً، وإذ عَلِمَ الإمام (عليه السلام) ذلك منهم فإنه خصمهم حين أصرّوا على سبي سائر النساء بأن يقرعوا سهامهم عليها باعتبار أنها رأس الفتنة وقائد هذه الجماعة الناكثة فسبيها أولى من سبي غيرها! فما كان منهم إلا أن تراجعوا عن إصرارهم مرعوبين!
روى المتقي الهندي عن أبي البحتري قال: «لمّا انهزم أهل الجمل؛ قال علي: لا يُطلَبَنَّ عبدٌ خارجاً من العسكر، وما كان من دابة أو سلاح فهو لكم، وليس لكم أم ولد، والمواريث على فرائض الله، وأي امرأة قُتِلَ زوجها فلتعتد أربعة أشهر وعشراً. قالوا: يا أمير المؤمنين! تحلُّ لنا دماؤهم ولا تحلُّ لنا نساؤهم؟! فقال: كذلك السيرة في أهل القبلة، فخاصموه! قال: فهاتوا سهامكم وأقرعوا على عائشة! فهي رأس الامر وقائدهم! قال: ففرقوا وقالوا: نستغفر الله! فخصمهم علي».
ولو أقدم الأمير (عليه السلام) فعلاً على سبي عائشة لأدى ذلك إلى انقلاب أكثر جيشه عليه كما انقلب عليه الخوارج في صفّين بعد خدعة رفع المصاحف، ومؤدّى ذلك إما قتله (عليه السلام) أو خلعه، أو على أقل تقدير إضعاف شوكته بما يجعل لمعاوية وحزبه السبيل عليه في برهة قصيرة، بلا صفين ولا نهروان ولا غارات، وإنما هي وقعة واحدة.
ولو أنه (عليه السلام) أقدم على قتل عائشة لجُعل ذلك أعظم التشنيع عليه، ولصار أكبر محفّزٍ لاجتماع سيوف الناس عليه. وقد صرّح بذلك عمرو بن العاص حين قال لعائشة: «لوددتُ أنكِ كنتِ قُتِلتِ يوم الجمل! فقالت: ولمَ لا أباً لك؟! فقال: كنتِ تموتين بأجلك وتدخلين الجنة، ونجعلكِ أكبر التشنيع على علي»!
هذا ناهيك عمّا أفصحت عنه الروايات الشريفة المزبورة من أنه (عليه السلام) لو لم يمنّ لجرى سبي نساء شيعته من بعده وهتك أعراضهن. فلهذا استبقى أمير المؤمنين (عليه السلام) حرمة عائشة الأولى، لا لاستحقاقها؛ بل لاستحقاق شيعته، ولتفويت الفرصة على أعدائه من أن يشنّعوا ويؤلّبوا عليه أكثر، ولحفظ تماسك جيشه الذي لم يكن قد تبصّر بالحق بعد، وإنما تبصّر لاحقاً بعد مقدّمات وأعمال، كما سبقت الإشارة إليه في التوطئة.
وهذا هو معنى ما أنشأه (عليه السلام) حين قال: «ولها بعدُ حرمتها الأولى»، فهو لا يعني أن لها كرامة أو مقاماً يمنع من ثلبها أو القدح فيها، كيف وهي التي انتهكت هذه الحرمة بخروجها وتبرّجها تبرّج الجاهلية الأولى؟! وإنما كلامه (عليه السلام) ناظر إلى استصحاب حرمة دمها وعرضها، وإرجاعها إلى المدينة لتكون حبيسة بيتها إلى أن يتهيأ تطليقها وإباحة نكاحها، كل ذلك منّاً منه (عليه السلام) عليها وعلى سائر أهل الجمل الناكثين، لا أكثر من ذلك.
وفقكم الله لمراضيه.
مكتب الشيخ الحبيب في أرض فدك الصغرى
11 جمادى الأولى 1445 هجرية