2007 / 11 / 23
صدر عن الشيخ ياسر الحبيب البيان التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
”هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ. وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ“. (آل عمران: 138 – 141).
ليس بالجديد على حكومة أبناء البغايا وقطاع الطرق واللصوص من آل خليفة ما فعلته من جرائم أخيرة بحق ثلة من شبابنا المؤمن في البحرين، تلك الجرائم التي ضربت بالأخلاق عرض الجدار، وبلغ من وقاحتها مبلغ محاولة الاعتداء جنسيا على أحد المؤمنين لمجرد أنه طالب بحقّه في العمل المحروم منه - كعشرات الألوف من أقرانه - بسبب التمييز الوظيفي الطائفي!
ومع هذا فليس بالأمر جديد، لأن من تولّد على فراش العهر والسفاح، ولم يعرف الطهر والنكاح، كيف تُرتجى منه الأخلاق ومكارمها؟! وأنّى له الفضائل ومحاسنها؟! ومن عاش طوال حياته منعّما على آلام وآهات الناس، كيف تُتوقَّع منه صحوة ضمير أو إحساس؟!
إننا إذ نعبّر لأهلنا في بحرين الولاء والإباء عن مناصرتنا لهم وتضامننا الكامل معهم في كفاحهم التاريخي ضد الجائرين والظالمين من آل خليفة؛ فإننا ننبه إلى أمور على ضوء الآيات الشريفة المزبورة:
أولا؛ إنه ما من شك ولا ريب عند جميع العقلاء أن حكم آل خليفة سيزول من الوجود يوما ما، طال الزمان أم قصر، لأن سنة الله تعالى تقضي بمداولة الأيام بين الناس، ومحق الظالمين والكافرين. غاية ما في الأمر أنها فترة يمحّص الله سبحانه فيها المؤمنين، ويستخلص منهم الشهداء والمضحين في سبيله. وقد رأى البشر كيف قد سقطت أعتى الديكتاتوريات في العالم مع ما كانت تملكه من سطوة وجبروت، كما شهد التاريخ ولا يزال سقوط الأسر الحاكمة المستبدة مهما استوثقت مقاليد الحكم. وسلطة آل خليفة ليست بأعظم من تلك الديكتاتوريات والملكيات سطوة وقوة، بل إن هشاشتها تُشعر وكأنها من ورق لا يصمد أمام نفخة! والكلّ يعلم أنه لولا الدعم الخارجي لهذه السلطة، واعتمادها على أوباش جلبتهم وجنّستهم من هنا وهناك لخدمتها وحمايتها؛ لما بقى لها وجود.
ثانيا؛ إن الانتفاضات المباركة التي تفجّرت في البحرين كان لها الدور الأعظم في هزّ الحكم الخليفي الجائر، صحيح أنها حملت معها تضحيات جمّة في الأرواح والدماء؛ إلا أنها في المقابل أقرحت الظلمة، فأصابتهم بجروح بليغة مازالت تنزف وستنزف حتى تموت حكومتهم وتضمحل إلى غير رجعة بإذن الله تعالى. وعلى هذا؛ فكلّ من يشكك في صلاح هذه الانتفاضات والثورات - من حيث المبدأ - يكون كمن يتعامى عن هذه الحقيقة، وكمن يتجاهل أن ثورة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أصابت حكومة آل أبي سفيان (لعنهم الله) بجروح بليغة فظلت تنزف حتى ماتت.
ثالثا؛ إن الوثبة الجديدة التي ترتسم معالمها اليوم في البحرين، بما تحمله من بوادر التحدّي للظالمين، أمامها طريقان لا ثالث لهما، فإما أن تهدأ بعد فترة استجابة للتسويات الخادعة التي تعمد لها السلطة في مثل هذه المواقف الحرجة، فتُضاف هذه الوثبة إلى سابقاتها محقّقة شيئا من الجروح والقروح ويتأخر سقوط آل خليفة. وإما أن تتحوّل إلى انتفاضة شعبية عارمة تقضي على حكومة الظالمين إلى الأبد وتقيم مكانها حكومة الشعب المؤمن العادلة. وما من عاقل لا يرجّح الخيار الثاني وإن كان أصعب، لأنه الخيار الوحيد الذي ينهي المعاناة الممتدة منذ عشرات السنين، حيث أثبتت التجربة أن أية تسوية مع هؤلاء الأنذال لا تكون إلا كمخدّر مؤقت، سرعان ما يعود بعدها الظلم عينه، والجرائم نفسها، فيما يبقى الشعب يعاني من القهر والغبن والفساد والبطالة والتمييز الطائفي والتجنيس السياسي وما إلى ذلك من مظالم. وما تجربة ”الإصلاح المكذوب والميثاق المنفصم“ إلا دليلا حيا على هذه الحقيقة. فلذا لابد من وضع حد نهائي للآلام والمرارات، ولا يتحقق ذلك إلا بإسقاط هذه العصابة التي استباحت البحرين منذ قديم الزمان حتى اليوم.
رابعا؛ إن من أهم عوامل نجاح هذه الوثبة والانتفاضة الجديدة - إن تحقّقت - ترشيدها وإنضاجها، فلا ينبغي لها أن تتحوّل إلى العنف أو عمليات التخريب وما أشبه مما يضعفها ويشوّه صورتها، بل ينبغي لها أن تبقى قوية ونقيّة في الآن نفسه. ومن هنا ينبغي التأكيد على جميع إخواننا المؤمنين، سيما شبابنا الأعزاء، بضرورة الالتفات إلى ذلك، فمع تشجعينا المطلق على النزول إلى الشارع، والتظاهر والتجمهر، وإطلاق هتافات التحدي، وحرق صور الظالمين، وإلقاء خطابات الثورة، وتوزيع المنشورات التوعوية، والعصيان المدني، والاحتجاج الإعلامي، وما إلى ذلك من وسائل الضغط والتصعيد.. مع كامل إيماننا بضرورة كل ذلك؛ إلا أنه لا ينبغي أن ينقلب الأمر إلى التفجير والإحراق، وتدمير المملتكات الشخصية أو العامة، وغير ذلك مما قد تسعى إليه السلطة نفسها لتشويه صورة هذه الوثبة المباركة.
خامسا؛ من اللازم على الجماهير المؤمنة أن تتحرك بهدي العلماء الفضلاء ممن يقدّمون مشاريع استنقاذية تبتعد عن أية تسوية مع السلطة الماكرة، فإن الابتعاد عن أمثال هؤلاء العلماء الواعين قد يوقع الجماهير المؤمنة في محاذير تفوّت الفرصة الثمينة. وفي هذا الصدد نثني على مشروع ومقترحات سماحة الأستاذ الشيخ محمد السند (دام ظله) كنموذج غير حصري، وهي المقترحات التي كان من بينها تكوين جبهة شعبية ضاغطة للمطالبة بالاستفتاء تحت مظلة الأمم المتحدة على شرعية وبقاء نظام الحكم الحالي في البحرين.
سادسا؛ لا يخفى أن عالم اليوم قد تبدّلت فيه السياسات الدولية عن عالم الأمس، وأصبحت فيه قوانينه وموازينه الذي تحكمه والتي تختلف عن قوانين وموازين الماضي. وعلى هذا الأساس ينبغي الإذعان إلى حقيقة أنه لا يمكن أن يقع أي تغيير في البحرين أو في غيرها ما لم يؤمَن جانب الدول الاستعمارية الكبرى، وما لم يتم تحييدها على الأقل، فإن ما تخشاه هذه الدول في هذه المنطقة هو قيام حكومات ثورية أو راديكالية جديدة تهدد مصالحها وتصطدم بسياساتها، ولا مجال للمناقشة في أن أية مجابهة حالية مع هذه الدول ستكون خاسرة من جهة أننا الأضعف. وعليه؛ ينبغي الإذعان إلى ضرورة إعمال سياسة المصالح المتبادلة من باب الاضطرار، حتى يؤمَن جانب هذه الدول ولا تقف حجر عثرة أمام التغيير المنشود، وإلا لذهبت كل الجهود أدراج الرياح كما وقع إبان الانتفاضة الشعبانية المجيدة في العراق قبل أربعة عشر عاما، فقد كان بالإمكان حينها تغيير المعادلة السياسية بإبداء مرونة تجاه المخاوف الأميركية بهدف إنجاح الانتفاضة والتخلص من الحكم الصدامي، وكان ذلك سيوفر علينا أربعة عشر عاما من العذاب الإضافي الذي انتهى بالاحتلال وعودة الأميركيين بالنتيجة. يمكننا أن نكون أذكى من اليهود، والبكريين، وأذكى من الغربيين أنفسهم، لو فهمنا قانون ”خذ وأعطِ“ وطبقناه بحكمة. على أن أي مضي في هذا الاتجاه لا بد وأن يكون بإمضاء المرجعية والفقيه الجامع للشرائط في حال تعذر الحصول على إمضاء شورى الفقهاء المراجع.
سابعا؛ والأهم في هذا كله، هو التوجه بقلوب مخلصة ونوايا صادقة نحو مقام قطب دائرة الإمكان مولانا صاحب العصر والزمان (صلوات الله وسلامه عليه) مثلما توجه إليه ذلك المؤمن الطاهر (محمد بن عيسى رضوان الله عليه) فأنقذ المولى شعب البحرين ببركة توسلاته ودموعه في ليل الصحراء! فلو أصبحنا جميعا بهذه الحالة من الانقطاع إلى إمامنا المفدى (صلوات الله عليه وعجل الله فرجه) لما تأخر عنا اليُمن بلقائه ولما حُبس عنا نصره وتأييده. فليكن شعب البحرين المجاهد، ذلك الشعب الذي يضرب مثالا لغيره من الشعوب في الإيمان العميق والارتباط الشديد بمقام بقية الله الأعظم صلى الله عليه وعلى آبائه الطاهرين. ولتكن سمة هذا الشعب هي أنه ”شعب مهدي آل محمد“.
وإني مازلت أقول بكل ثقة، وقد كررتها غير مرة لا عن محاباة، بل عن قناعة، أن شعب البحرين بالذات، بالنسبة إلى بقية الشعوب الشيعية في منطقة الخليج، هو في مقام المثل الأعلى، منه يتعلم الآخرون، وبمواقفه البطولية يتأثرون. فاليوم على شيعة البحرين أن يعلموا أن نهوضهم ونجاحهم في إسقاط الطاغوت سينعكس إيجابا على جميع الشعوب الشيعية في المنطقة، وسيدّونون بذلك في التاريخ الإمامي صفحة مشرقة بيضاء تتناقلها الأجيال بعز وفخار.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يعجّل فرج إمامنا المنتظر (أرواحنا فداه) لينتقم من الظالمين والمفسدين في الأرض، وأن يقرّ عيون أيتام آل محمد (عليهم الصلاة والسلام) برؤيته قريبا عاجلا. كما نسأله جل وعلا أن ينعم على شعب البحرين بالحرية والكرامة، وأن يرفع عنهم هذا البلاء بأسرع ما يكون. إله الحق آمين.
ياســــــر الحبيــــــب
لندن 29 شوال 1426